منفى يتحول إلى وطن
يواجه التراث الثقافي السوداني الأرمني، كجزء من التراث الثقافي الواسع والمتنوع للسودان، خطر المحو. كانت المحاولات المحدودة السابقة لتوثيق هذا المجتمع صغيرة النطاق، وأكاديمية في المقام الأول، ولم تجعل أي نتائج مادية متاحة للسودانيين أو الأرمن.

/ الاجابات
سوداناهي: أَرشَفَةُ الذاكرة وصِناعة مُستقبلٍ يدعو للتعايش
جاء هذا المشروع لحماية التراث الأرمني السوداني كجزء من التراث الثقافي المتنوع والغني للسودان، الذي يواجه خطر النسيان. سابقا، كانت محاولات التوثيق قليلة النطاق وغير متاحة بشكل كبير. في هذا السياق، أنشئ مشروع "Sudanahhye"، "سوداناهي" (الذي يعني بالأرمنية "الأرمني السوداني") لإرساء إرث دائم تشاركيّ ومفتوح للمجتمع من خلال تطوير أرشيف شامل لتاريخه. كانت بداية المبادرة بسبب دافع شخصيـ عندما شعر "ڤاهي بوغوسيان" بضرورة توثيق تاريخ عائلته ومجتمعه الذي أصبح مهدداً بالضياع بسبب اندلاع الحرب، وقام بإجراء مقابلات مع بعض أفراد أسرته الذين كانوا جزءاً من مجتمع السودانيين الأرمن. تطوَّرت المبادرة بدعمٍ من مؤسسة كلوست غلبنكيان (Calouste Gulbenkian) وبدعم سخي من بعض أعضاء مجتمع السودانيين الأرمن، لتصبح مشروعاً متعدد الوسائط، يهدف إلى توثيق التاريخ والحفاظ على التراث وإعادة تخيُّل المجتمع اليوم من خلال ربط التاريخ الشفهي بالأرشيف والأجيال الجديدة.
بعدها انطلق المشروع من سرديات التاريخ الشفهيّ ليستند إلى مصادر أرشيفية متعدِّدة، منها الأرشيفات العائلية التي ساهم بها بعض أعضاء المجتمع، وأصبحت جزءاً من أرشيف سوداناهي، إضافة إلى عمليات البحث في مصادر أرشيفية أخرى؛ مثل سجلاَّت الخرطوم الموجودة في الجمعية الخيرية العامة الأرمنية في القاهرة، والتي تمكَّن المشروع من الوصول إليها بفضل جهود "ماروش ييراميـان"، مما فَتَح نافذة على بدايات تاريخ المجتمع السوداني الأرمني.
وبالرغم من أن "ڤاهي بوغوسيان"، مدير المشروع الذي تعود أصوله الأرمنية السودانية إلى السودان، إلا أنه لم يَزُرهُ قَط، لكن من خلال انتقاله للعمل في القاهرة بعد هجرة جاليات كبيرة من السودانيين بعد الحرب إليها، أُتيحت له فرصة العمل مع سودانيين ومصريين، وأصبح هناك فريق عمل للمشروع، كما كان لحضوره فعاليات كثيرة في سياق الثقافة والتاريخ والفن والأرشيفات العائلية في القاهرة دوراً كبيراً في إدماجه في المجتمع السوداني. ومن خلال تلك الفترة، اطلع على الثقافة والمجتمع والقيم السودانية بشكلٍ أعمق.
من خلال هذه الجهود، يسعى هذا المشروع لمواصلة الإسهام في جمع قصص مجتمعٍ كانت مهدَّدة بالضياع عبر الزمن، قصص تستمد ذكرياتها من ماضٍ اتسم بالتنوع والازدهار، لنتمكن من إعادة تخيل مستقبل أكثر تعايشاً في السودان، يقوم على تقبل الآخر وتعايش الأطياف المختلفة من المجتمعات السودانية المتعددة في أرض السودان التي ستظلّ، رغم الظروف الراهنة، حضناً دائماً للتنوع والتعايش والسلام.

على ضفاف النيل، منفىً يَتحوّل إلى وطن:
بالنسبة للعديد من السودانيين الأرمن كانت الصور والقصص هي كل ما يملكونه عن التاريخ الطويل لحياتهم في السودان لتوريثه للأجيال القادمة، فقد مثَّلت بوابة زمنية تَعكس الهوية الأرمنية الأصيلة في تفاعلها مع ملامح الثقافة السودانية المتنوعة في شتى جوانب الحياة -صورالأطفال في المدرسة الأرمنية، و تفاعلات المجتمع النابضة بالحياة في النادي الأرمني بالخرطوم، والنزهات العائلية في جبل أولياء، والرحلات النيلية- شَكَّل هذا التداخل حِساً بالانتماء للهوية في ظل ظروف التهجير بعيداً عن موطنهم الأصلي، لتحكي قصة تعايشهم وإعادة بناء حياتهم في الوطن الذي شَكَّل لاحقاً النصف الآخر من هويتهم، السودان.
في العادة يتم التقاط الصور لتوثيق اللحظات السعيدة، لذلك نجد أن غالبية الصور والقصص كانت تغفل جانب النفي والفقد والحرمان، لكن في عام ٢٠٢٣ تجدَّد هذا الجانب المظلم من حياة الأرمن في السودان باندلاع الحرب، وخسارة الأرض التي شكَّلت موطناً آخر لهم، حيث تسبَّبت في خسارة العديد من الأرواح التي كان من بينها اثنتان من مجتمع السودانيين الأرمن، "زفارت وآرپي ييغاڤيان" اللاتي فارقتا الحياة في منزلهما بالخرطوم. وحتى لا يضيع تراثهنَّ وتراث المجتمع، كان لابد من العمل على توثيقه وحفظه وإرساء إرثٍ له.

هجرة الأرمن من أرابكير إلى السودان
كانت الأخوات ييغاڤيان من نسل كارنيغ ييغاڤيان -أرمني تعود أصوله إلى أرابكير (مدينة تاريخية في مرتفعات أرمينيا، كانت آنذاك ضمن الدولة العثمانية واليوم في شرق تركيا)- نَجَا كارنيغ من الإبادة الجماعية التي حدثت للأرمن في عام ١٩١٥، وهاجر إلى السودان عام ١٩٢٣ لينضمَّ إلى أرمن أرابكير الذين كانوا يقيمون هناك مسبقاً. بعد الاحتلال البريطاني عام ١٨٩٩ هاجر بعض الأرمن من منطقة أرابكير ومناطق أخرى إلى السودان كامتداد لشبكات التجارة في مصر، طامحين لتحسين أوضاعهم الاقتصادية ودعم أقاربهم في الوطن.
أسَّس هؤلاء الروّاد فرعاً سودانياً لجمعية AGBU (الجمعية الخيرية العامة الأرمنية)، لجمع التبرعات لأقرانهم في أرمينيا الذين واجهوا الإبادة الجماعية والفقر على يد الإمبراطورية العثمانية. وتجاوب كثير من هؤلاء الأرمن المقيمين في السودان -ممن فقدوا عائلاتهم في الإبادة- مع نداءات دور الأيتام في سوريا ولبنان، فيما جلب آخرون أفراد عائلاتهم المتبقين هناك لينضموا إليهم. وبحلول الثلاثينيات، تحوَّلت شبكة التُجّار الأرمن إلى مجتمع من العائلات منتشرة من عطبرة إلى ملكال، ومن كسلا إلى الفاشر، وظلّ قلب المجتمع في مدينة الخرطوم.

تأسيس مجتمع نابض بالحياة في السودان
شكَّل اتقان اللغة العربية والإنجليزية في ذلك الوقت امتيازاً ومنفذاً لفرص العمل واكتساب مكانة اجتماعية وقبولاً من فئات المجتمع المختلفة، لذلك تمكَّن كارنيغ ييغاڤيان من العمل محاسباً في البنك الأهلي المصري، كما حظي بالاحترام والقبول من المجتمع المحلي السوداني والسلطة البريطانية الحاكمة.
يمكننا وصف مجتمع الأرمن بأنه كان في المنتصف بين فئات المجتمع المختلفة في تلك الفترة، فقد عاش الأرمن -مثل الأجانب اليونانيين والسوريين والإيطاليين- في مساحة مجاورة للسلطة البريطانية، لكنهم في ذات الوقت كانت لهم صلات وثيقة مع المجتمع السوداني من خلال الانخراط في العمل والحياة اليومية.
ويمكننا رؤية حيوية شكل العلاقات التي امتاز بها الأرمن من خلال عدسة أندون قازانجيان، المصور الأرمني من استوديو غوردون، فقد كان المصور الرسمي للسلطات البريطانية، إلا أن عدسة كاميرته لم توثق فقط للسلطة، بل وثَّقت بعض مشاهد الحياة اليومية للعُمّال والتحضّر العمراني في المدينة. ويُرجَّح أن بقاء هذا الكم من الصور التي وثّقت لحياة مجتمع السودانيين الأرمن يعود إلى جهود العديد من المصورين الأرمن في السودان، فلم يكن أندون المصور الأرمني الوحيد في ذلك الوقت.
فيما عمل البعض لخدمة السلطة الاستعمارية البريطانية، إلا أن معظم الأرمن كانوا ينخرطون في أعمال تجارية (بشكل خاص كوكلاء للشركات الغربية) أو تأسيس صناعات، مثل نرسس ييغاڤيان الذي عمل في متجر "S & S Vanian" الشهير في الخرطوم، ما أتاح مساحة للتفاعل مع الجاليات الأجنبية الأخرى والمجتمع السوداني المحلي.
بحلول استقلال السودان عام ١٩٥٦، صار الأرمن -بالرغم من كونهم أقلية- مجتمعاً معروفاً ومحترماً. ونشاهد من خلال ما تم توثيقه كيف كان للرقص الأرمني حضوراً بارزاً في احتفالات استقلال السودان. ولكون الأرمن مجتمع مسيحي واعتبارهم "خواجة"، فقد كانت لهم حياة منفصلة تستند على الكنيسة والأندية والمدارس الأرمنية، إلا أنهم أصبحوا مواطنين سودانيين عقب الاستقلال. وبما أن أرمينيا كانت لا تزال داخل الاتحاد السوفيتي، فعلى عكس الجاليات الأجنبية الأخرى لم يكن لديهم وطن مستقل يعودون إليه، لكن تمكنوا من الحفاظ على هويتهم الأرمنية في السودان من خلال الممارسات الدينية في الكنيسة الأرمنية والتراث الثقافي والروابط الأسرية في البيت الأرمني.

رحلة التقلص والانحسار
تعرَّض المجتمع لأزمة في أواخر الستينيات والسبعينيات عندما طالت سياسات التأميم الأفراد والمؤسسات الأجنبية. غادر بعضهم طوعاً بينما اضطر آخرون للرحيل والهرب بسبب الاضطهاد. رغم ذلك، استعاد البعض صمودهم واستمروا بالحياة من خلال الانغلاق على المؤسسات الأرمنية في الخرطوم والانتماء إليها.
ومع تصاعد الأزمة السياسية، تقلَّص مجتمع الأرمن تدريجياً؛ أُغلقت المدرسة الأرمنية بسبب تقلّص عدد الطلاب، وانتزعت السلطات النادي الأرمني الذي كان قبلة النخب. وبقيت الكنيسة الأرمنية منارة للمجتمع المتناقص الذي وصل إلى حوالي ٥٠ فرداً في بداية العقد الـ٢١، مقارنة بـ١٠٠٠ فرد في الستينيات.
لا تزال الكنيسة قائمة حتى اليوم، رغم أنها، كحال بقية مدينة الخرطوم، تضرَّرت من جراء الحرب والدمار الذي طال معظم الأماكن. واضطر العديد من الأرمن السودانيين إلى اللجوء خارج السودان، معلنين نهاية إرثٍ دام أكثر من مئة عام، إرث شَهِد على تعايش مجتمع الأرمن مع السودانيين وإسهامهم في العديد من المجالات؛ مثل الاقتصاد والصناعة وريادة شخصيات بارزة مثل زاروهي سركسيان (أول طبيبة في السودان، والتي تخرجت عام ١٩٥٢ مع دكتورة خالدة زاهر) وجاك إسكهانيس (مهندس معماري) الذي كان له دور بارز في تشكيل تصاميم سودانية فريدة في العمران.
لكن بالرغم من الاضطرابات السياسية المتواصلة، ظل الأرمن السودانيون يحظون بالتقدير والاحترام والترحاب وسط المجتمع السوداني، ويقول كثيرون منهم بكل فخر: "أنا سوداني".
صورة الغلاف: المدرسة الأرمنية © أرشيف صور سودانهاي
سوداناهي: أَرشَفَةُ الذاكرة وصِناعة مُستقبلٍ يدعو للتعايش
جاء هذا المشروع لحماية التراث الأرمني السوداني كجزء من التراث الثقافي المتنوع والغني للسودان، الذي يواجه خطر النسيان. سابقا، كانت محاولات التوثيق قليلة النطاق وغير متاحة بشكل كبير. في هذا السياق، أنشئ مشروع "Sudanahhye"، "سوداناهي" (الذي يعني بالأرمنية "الأرمني السوداني") لإرساء إرث دائم تشاركيّ ومفتوح للمجتمع من خلال تطوير أرشيف شامل لتاريخه. كانت بداية المبادرة بسبب دافع شخصيـ عندما شعر "ڤاهي بوغوسيان" بضرورة توثيق تاريخ عائلته ومجتمعه الذي أصبح مهدداً بالضياع بسبب اندلاع الحرب، وقام بإجراء مقابلات مع بعض أفراد أسرته الذين كانوا جزءاً من مجتمع السودانيين الأرمن. تطوَّرت المبادرة بدعمٍ من مؤسسة كلوست غلبنكيان (Calouste Gulbenkian) وبدعم سخي من بعض أعضاء مجتمع السودانيين الأرمن، لتصبح مشروعاً متعدد الوسائط، يهدف إلى توثيق التاريخ والحفاظ على التراث وإعادة تخيُّل المجتمع اليوم من خلال ربط التاريخ الشفهي بالأرشيف والأجيال الجديدة.
بعدها انطلق المشروع من سرديات التاريخ الشفهيّ ليستند إلى مصادر أرشيفية متعدِّدة، منها الأرشيفات العائلية التي ساهم بها بعض أعضاء المجتمع، وأصبحت جزءاً من أرشيف سوداناهي، إضافة إلى عمليات البحث في مصادر أرشيفية أخرى؛ مثل سجلاَّت الخرطوم الموجودة في الجمعية الخيرية العامة الأرمنية في القاهرة، والتي تمكَّن المشروع من الوصول إليها بفضل جهود "ماروش ييراميـان"، مما فَتَح نافذة على بدايات تاريخ المجتمع السوداني الأرمني.
وبالرغم من أن "ڤاهي بوغوسيان"، مدير المشروع الذي تعود أصوله الأرمنية السودانية إلى السودان، إلا أنه لم يَزُرهُ قَط، لكن من خلال انتقاله للعمل في القاهرة بعد هجرة جاليات كبيرة من السودانيين بعد الحرب إليها، أُتيحت له فرصة العمل مع سودانيين ومصريين، وأصبح هناك فريق عمل للمشروع، كما كان لحضوره فعاليات كثيرة في سياق الثقافة والتاريخ والفن والأرشيفات العائلية في القاهرة دوراً كبيراً في إدماجه في المجتمع السوداني. ومن خلال تلك الفترة، اطلع على الثقافة والمجتمع والقيم السودانية بشكلٍ أعمق.
من خلال هذه الجهود، يسعى هذا المشروع لمواصلة الإسهام في جمع قصص مجتمعٍ كانت مهدَّدة بالضياع عبر الزمن، قصص تستمد ذكرياتها من ماضٍ اتسم بالتنوع والازدهار، لنتمكن من إعادة تخيل مستقبل أكثر تعايشاً في السودان، يقوم على تقبل الآخر وتعايش الأطياف المختلفة من المجتمعات السودانية المتعددة في أرض السودان التي ستظلّ، رغم الظروف الراهنة، حضناً دائماً للتنوع والتعايش والسلام.

على ضفاف النيل، منفىً يَتحوّل إلى وطن:
بالنسبة للعديد من السودانيين الأرمن كانت الصور والقصص هي كل ما يملكونه عن التاريخ الطويل لحياتهم في السودان لتوريثه للأجيال القادمة، فقد مثَّلت بوابة زمنية تَعكس الهوية الأرمنية الأصيلة في تفاعلها مع ملامح الثقافة السودانية المتنوعة في شتى جوانب الحياة -صورالأطفال في المدرسة الأرمنية، و تفاعلات المجتمع النابضة بالحياة في النادي الأرمني بالخرطوم، والنزهات العائلية في جبل أولياء، والرحلات النيلية- شَكَّل هذا التداخل حِساً بالانتماء للهوية في ظل ظروف التهجير بعيداً عن موطنهم الأصلي، لتحكي قصة تعايشهم وإعادة بناء حياتهم في الوطن الذي شَكَّل لاحقاً النصف الآخر من هويتهم، السودان.
في العادة يتم التقاط الصور لتوثيق اللحظات السعيدة، لذلك نجد أن غالبية الصور والقصص كانت تغفل جانب النفي والفقد والحرمان، لكن في عام ٢٠٢٣ تجدَّد هذا الجانب المظلم من حياة الأرمن في السودان باندلاع الحرب، وخسارة الأرض التي شكَّلت موطناً آخر لهم، حيث تسبَّبت في خسارة العديد من الأرواح التي كان من بينها اثنتان من مجتمع السودانيين الأرمن، "زفارت وآرپي ييغاڤيان" اللاتي فارقتا الحياة في منزلهما بالخرطوم. وحتى لا يضيع تراثهنَّ وتراث المجتمع، كان لابد من العمل على توثيقه وحفظه وإرساء إرثٍ له.

هجرة الأرمن من أرابكير إلى السودان
كانت الأخوات ييغاڤيان من نسل كارنيغ ييغاڤيان -أرمني تعود أصوله إلى أرابكير (مدينة تاريخية في مرتفعات أرمينيا، كانت آنذاك ضمن الدولة العثمانية واليوم في شرق تركيا)- نَجَا كارنيغ من الإبادة الجماعية التي حدثت للأرمن في عام ١٩١٥، وهاجر إلى السودان عام ١٩٢٣ لينضمَّ إلى أرمن أرابكير الذين كانوا يقيمون هناك مسبقاً. بعد الاحتلال البريطاني عام ١٨٩٩ هاجر بعض الأرمن من منطقة أرابكير ومناطق أخرى إلى السودان كامتداد لشبكات التجارة في مصر، طامحين لتحسين أوضاعهم الاقتصادية ودعم أقاربهم في الوطن.
أسَّس هؤلاء الروّاد فرعاً سودانياً لجمعية AGBU (الجمعية الخيرية العامة الأرمنية)، لجمع التبرعات لأقرانهم في أرمينيا الذين واجهوا الإبادة الجماعية والفقر على يد الإمبراطورية العثمانية. وتجاوب كثير من هؤلاء الأرمن المقيمين في السودان -ممن فقدوا عائلاتهم في الإبادة- مع نداءات دور الأيتام في سوريا ولبنان، فيما جلب آخرون أفراد عائلاتهم المتبقين هناك لينضموا إليهم. وبحلول الثلاثينيات، تحوَّلت شبكة التُجّار الأرمن إلى مجتمع من العائلات منتشرة من عطبرة إلى ملكال، ومن كسلا إلى الفاشر، وظلّ قلب المجتمع في مدينة الخرطوم.

تأسيس مجتمع نابض بالحياة في السودان
شكَّل اتقان اللغة العربية والإنجليزية في ذلك الوقت امتيازاً ومنفذاً لفرص العمل واكتساب مكانة اجتماعية وقبولاً من فئات المجتمع المختلفة، لذلك تمكَّن كارنيغ ييغاڤيان من العمل محاسباً في البنك الأهلي المصري، كما حظي بالاحترام والقبول من المجتمع المحلي السوداني والسلطة البريطانية الحاكمة.
يمكننا وصف مجتمع الأرمن بأنه كان في المنتصف بين فئات المجتمع المختلفة في تلك الفترة، فقد عاش الأرمن -مثل الأجانب اليونانيين والسوريين والإيطاليين- في مساحة مجاورة للسلطة البريطانية، لكنهم في ذات الوقت كانت لهم صلات وثيقة مع المجتمع السوداني من خلال الانخراط في العمل والحياة اليومية.
ويمكننا رؤية حيوية شكل العلاقات التي امتاز بها الأرمن من خلال عدسة أندون قازانجيان، المصور الأرمني من استوديو غوردون، فقد كان المصور الرسمي للسلطات البريطانية، إلا أن عدسة كاميرته لم توثق فقط للسلطة، بل وثَّقت بعض مشاهد الحياة اليومية للعُمّال والتحضّر العمراني في المدينة. ويُرجَّح أن بقاء هذا الكم من الصور التي وثّقت لحياة مجتمع السودانيين الأرمن يعود إلى جهود العديد من المصورين الأرمن في السودان، فلم يكن أندون المصور الأرمني الوحيد في ذلك الوقت.
فيما عمل البعض لخدمة السلطة الاستعمارية البريطانية، إلا أن معظم الأرمن كانوا ينخرطون في أعمال تجارية (بشكل خاص كوكلاء للشركات الغربية) أو تأسيس صناعات، مثل نرسس ييغاڤيان الذي عمل في متجر "S & S Vanian" الشهير في الخرطوم، ما أتاح مساحة للتفاعل مع الجاليات الأجنبية الأخرى والمجتمع السوداني المحلي.
بحلول استقلال السودان عام ١٩٥٦، صار الأرمن -بالرغم من كونهم أقلية- مجتمعاً معروفاً ومحترماً. ونشاهد من خلال ما تم توثيقه كيف كان للرقص الأرمني حضوراً بارزاً في احتفالات استقلال السودان. ولكون الأرمن مجتمع مسيحي واعتبارهم "خواجة"، فقد كانت لهم حياة منفصلة تستند على الكنيسة والأندية والمدارس الأرمنية، إلا أنهم أصبحوا مواطنين سودانيين عقب الاستقلال. وبما أن أرمينيا كانت لا تزال داخل الاتحاد السوفيتي، فعلى عكس الجاليات الأجنبية الأخرى لم يكن لديهم وطن مستقل يعودون إليه، لكن تمكنوا من الحفاظ على هويتهم الأرمنية في السودان من خلال الممارسات الدينية في الكنيسة الأرمنية والتراث الثقافي والروابط الأسرية في البيت الأرمني.

رحلة التقلص والانحسار
تعرَّض المجتمع لأزمة في أواخر الستينيات والسبعينيات عندما طالت سياسات التأميم الأفراد والمؤسسات الأجنبية. غادر بعضهم طوعاً بينما اضطر آخرون للرحيل والهرب بسبب الاضطهاد. رغم ذلك، استعاد البعض صمودهم واستمروا بالحياة من خلال الانغلاق على المؤسسات الأرمنية في الخرطوم والانتماء إليها.
ومع تصاعد الأزمة السياسية، تقلَّص مجتمع الأرمن تدريجياً؛ أُغلقت المدرسة الأرمنية بسبب تقلّص عدد الطلاب، وانتزعت السلطات النادي الأرمني الذي كان قبلة النخب. وبقيت الكنيسة الأرمنية منارة للمجتمع المتناقص الذي وصل إلى حوالي ٥٠ فرداً في بداية العقد الـ٢١، مقارنة بـ١٠٠٠ فرد في الستينيات.
لا تزال الكنيسة قائمة حتى اليوم، رغم أنها، كحال بقية مدينة الخرطوم، تضرَّرت من جراء الحرب والدمار الذي طال معظم الأماكن. واضطر العديد من الأرمن السودانيين إلى اللجوء خارج السودان، معلنين نهاية إرثٍ دام أكثر من مئة عام، إرث شَهِد على تعايش مجتمع الأرمن مع السودانيين وإسهامهم في العديد من المجالات؛ مثل الاقتصاد والصناعة وريادة شخصيات بارزة مثل زاروهي سركسيان (أول طبيبة في السودان، والتي تخرجت عام ١٩٥٢ مع دكتورة خالدة زاهر) وجاك إسكهانيس (مهندس معماري) الذي كان له دور بارز في تشكيل تصاميم سودانية فريدة في العمران.
لكن بالرغم من الاضطرابات السياسية المتواصلة، ظل الأرمن السودانيون يحظون بالتقدير والاحترام والترحاب وسط المجتمع السوداني، ويقول كثيرون منهم بكل فخر: "أنا سوداني".
صورة الغلاف: المدرسة الأرمنية © أرشيف صور سودانهاي