رحماً يَلِدُ ذاكرةَ السودان من جديد

للوهلة الأولى، قد تبدو صورة المرأة السودانية التقليدية "حارقة البخور وسرّادة الحكايات" مجرد ظلال من الماضي، لكنها حقيقة حيّة ومتجذرة، تواصل الوجود وسط أنقاض زمنٍ تتهاوى فيه الحكومات وتتفكَّك فيه مؤسسات الدولة، ظلَّت المرأة السودانية، في صمتٍ وهدوء، الحارسة الأكثر وفاءً لذاكرة الوطن وتراثه.

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
3/10/25
المؤلف:
محمد ديّوب
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
المترجم:
نبيل محمد نور طه
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

المرأة السودانية: رحماً يَلِدُ ذاكرةَ السودان من جديد

للوهلة الأولى، قد تبدو صورة المرأة السودانية التقليدية "حارقة البخور وسرّادة الحكايات" مجرد ظلال من الماضي، لكنها حقيقة حيّة ومتجذرة، تواصل الوجود وسط أنقاض زمنٍ تتهاوى فيه الحكومات وتتفكَّك فيه مؤسسات الدولة، ظلَّت المرأة السودانية، في صمتٍ وهدوء، الحارسة الأكثر وفاءً لذاكرة الوطن وتراثه. هذا الدور ليس وليد الحاضر، بل ضاربٌ في القدم. فقد أشارت أبحاث أثرية إلى أن امرأة نوبية قادت أول دولة معروفة في حضارة كرمة، وأن نساء مروي القديمة كنّ يشاركن في حمل الأثقال والأعمال العامة، مما يكشف جذوراً تاريخية لدور النساء في الاقتصاد والمجتمع. ورغم هذا الامتداد، إلا أن تأسيس الدولة الحديثة في بدايات القرن العشرين لم يمنح المرأة السودانية مكانتها المستحقة داخل الأرشيف الرسمي أو المتاحف، التي غالباً ما ظهرت كرمز شعبي في حفلات الزفاف أو المناسبات الموسمية، بينما ظل دورها الفعلي كمنتجة للمعرفة والثقافة في الظل بعيداً عن الوثائق، تتناقله الألسن. في مقابل هذا الإقصاء من التوثيق الرسمي، حافظت الذاكرة الشفوية على حضور المرأة بوصفها حاملة للتراث ومؤسِّسة للهوية. فالحكايات، والأغاني، والأمثال، وطقوس المناسبات، كانت تُروى وتُمارس في البيوت، في القرى، تحت ضوء الفوانيس. وتشير اليونسكو إلى أهمية هذه التقاليد الشفوية في نقل القيم والمعرفة، معتبرة أن الحفاظ على طقوس مثل "الجرتق" يُعزّز التماسك الاجتماعي ويقوّي قدرة المجتمعات على الصمود، لا سيما في أزمنة التفكك والانهيار.

و بالتأكيد لا يمكن اختزال دور المرأة السودانية في صورة واحدة؛ ففي الريف، حافظن على طقوس الحناء والجرتق، وأشرَفن على موسم الحصاد وتنظيم المناسبات الاجتماعية، بينما كانت نساء المدن يخضن معارك التحرر السياسي، من مواكب الثورة إلى مبادرات المجتمع المدني. هذا التنوع لا يعكس فقط تفاوتاً جغرافياً، بل يكشف عن تداخلات طبقية وثقافية داخل النضال النسوي نفسه؛ ففي أم درمان مثلاً، قد تكون المرأة ناشطة تكتب بياناً سياسياً بالمساء، لكنها في الصباح تُعد الطعام في تكية الحي أو تُشرف على جلسة حناء شعبية. إنها ليست قالباً واحداً، بل نسيج حيّ يتداخل فيه الفعل الرمزي مع النضال اليومي. الحركة النسوية الراهنة لم تكن بمنأى عن هذه التعقيدات. فبينما قادتها نساء في العاصمة والمدن الكبري، رافعات شعارات الحرية والتمثيل، كانت أخريات في القرى والأطراف يدافعن عن أمنهن الغذائي وصمودهن الاقتصادي، سلاحهن أدوات الطهي والزراعة والكدّ اليومي. هذا التباين في الأولويات لا ينتقص من أي نضال، بل يُثبت أن النسوية السودانية ليست خطاً مستقيماً، بل خريطة متشابكة من الأدوار والهموم.

من بين نساء السودان اللاتي أصبحن رموزاً، برزت فاطمة محمد الحسن، مؤسِّسة متحف نساء دارفور في نيالا عام ١٩٨٥. لم تكتف فاطمة بجمع القطع التراثية التي تُظهر تنوع القبائل وتقاليدها، بل أطلقت الفعاليات والمحاضرات وورش الحرف التقليدية، وأدارَت برامج إذاعية عن الفولكلور في راديو نيالا. من خلال هذا العمل، نجَدت صوت التراث السوداني وعَلَقت جذوره في الأجيال الجديدة، كصوت نسائي مقاوم وسط الصراع المستعصي على دارفور. و الآن، مع دخول الحرب مرحلة استنزاف طويلة، وغياب الدولة عن أداء وظائفها الأساسية، برزت من جديد مقاومة نسوية ناعمة تحمل طابعاً ثقافياً واجتماعياً، ظهرت جلياً كتكايا طعام في الأحياء الفقيرة كمراكز للتكافل، تُديرها نساء مثل ميساء محمد الأمين، التي أنشأت "مبادرة سندك يا وطن" كتكية لإطعام الجوعى. هذا الفعل البسيط، في جوهره، ليس إحساناً، بل تعبيراً صلباً عن التضامن، وبناء شبكة اجتماعية تُقاوم الانهيار كما تراه ميساء.

على الجانب الآخر، ومع تهالك البنية الإعلامية الرسمية، خصوصاً ضياع تسجيلات مهمة من أرشيف تلفزيون السودان، ونهب المتاحف وحرق الأراشيف، كما حدث في المتحف القومي للآثار، لجأت الشابات السودانيات في المهجر إلى الفضاء الرقمي لحفظ ما يمكن إنقاذه من الذاكرة. عبر "إنستغرام"، و"تيليغرام"، و"تيك توك"، تُبث الأغنيات القديمة مع شرح المعاني والتعريف بزمانها ومكانها، كما تَعرض بعضهن وصفات الأكلات السودانية، وتَروى بعضهن الحكايات، و هكذا تُعاد صياغة المشهد الشعبي السوداني بأدوات جديدة، عبر هذه المبادرات، وإن بدت متفرقة، إلا أنها تُشكِّل تياراً موازياً لحفظ التراث في لحظة الانقطاع. من بين هذه المبادرات، تبرز تجربة مآب معاوية سليمان شميس، المعروفة باسم mozarila0 على تيك توك، التي تقدم محتوى تراثياً متنوعاً بأساليب مبتكرة وتفاعلية. تجمع مآب جمهورها عبر فقرات مباشرة تتضمن مسابقات وأسئلة عن التراث، وتحرص على تمثيل مختلف مناطق السودان، من الشمال إلى الشرق والغرب، بغرض تقليل التحيّزات المناطقية والعنصرية. تقول مآب: "بدأ الناس في الاندماج، وأتطلع إلى وحدة حقيقية في المستقبل القريب؛ فالأجيال الجديدة لديها القابلية، وأُفقها أوسع".

تهتم مآب كذلك بتوثيق الأغنيات، مع ترجمتها من اللغات المختلفة إلى العربية، وتعيد تقديم أغاني البنات، وغناء السيرة، وأغاني الحقيبة، وحتى الريميكسات المعاصرة، في محاولة منها لخلق وحدة ثقافية حية داخل الفضاء الرقمي، تعكس التنوع السوداني وتمنح الجيل الجديد نافذة رحبة على ماضيه الثقافي. لكن يظل هنالك سؤال قائم: هل تستطيع النسوية الرقمية في المهجر أن تُحدث تأثيراً حقيقياً على الواقع القاسي في الداخل؟ وهل يمكن للتراث الرقمي أن يُجاري عمق التجربة الحسية والشفوية؟ هذا التساؤل لا ينتقص من قيمة هذه الجهود، بل يضعها في سياقها الزمني والمعرفي، مُبرزاً كيف تسهم هذه المبادرات في توثيق الذاكرة النسوية وصون التراث، خاصة في ظل تشتت الأجيال وتبدّل الوسائط، يمكن النظر لها كمحاولة لبناء جسر رقمي يربط بين الماضي والحاضر.

في زمن تحوّل فيه كيان الدولة إلى خرائب، ولم يبقَ من الوطن سوى الذاكرة. والمرأة التي تقف في قلب هذا المشهد، حارسةً لما تبقّى من روحه، و حفظها للتراث، في هذا السياق، يتجاوز كونه عملاً ثقافياً؛ إلى فعل مقاومة وجزء من إعادة الإعمار، التي بدأنها النساء من رائحة البخور في خيمة نزوح، ومن أغنية تهمس بها أم لابنتها في عزّ الحرب الدائرة الآن، و بالتأكيد عبر توثيق الأغاني والقصص القديمة على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن أمام هذا الواقع المعقد، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن دمج جهود الأرشفة الرقمية مع العمل الميداني للمرأة في الداخل، لبناء حركة ثقافية أكثر شمولًا وتأثيراً في مستقبل السودان؟.

صورة الغلاف التقطها عصام عبد الحفيظ

No items found.
نُشر بتاريخ
3/10/25
المؤلف:
محمد ديّوب
Editor
سارة النقر
المحرر:
مأمون التلب
المترجم:
Translator
نبيل محمد نور طه

المرأة السودانية: رحماً يَلِدُ ذاكرةَ السودان من جديد

للوهلة الأولى، قد تبدو صورة المرأة السودانية التقليدية "حارقة البخور وسرّادة الحكايات" مجرد ظلال من الماضي، لكنها حقيقة حيّة ومتجذرة، تواصل الوجود وسط أنقاض زمنٍ تتهاوى فيه الحكومات وتتفكَّك فيه مؤسسات الدولة، ظلَّت المرأة السودانية، في صمتٍ وهدوء، الحارسة الأكثر وفاءً لذاكرة الوطن وتراثه. هذا الدور ليس وليد الحاضر، بل ضاربٌ في القدم. فقد أشارت أبحاث أثرية إلى أن امرأة نوبية قادت أول دولة معروفة في حضارة كرمة، وأن نساء مروي القديمة كنّ يشاركن في حمل الأثقال والأعمال العامة، مما يكشف جذوراً تاريخية لدور النساء في الاقتصاد والمجتمع. ورغم هذا الامتداد، إلا أن تأسيس الدولة الحديثة في بدايات القرن العشرين لم يمنح المرأة السودانية مكانتها المستحقة داخل الأرشيف الرسمي أو المتاحف، التي غالباً ما ظهرت كرمز شعبي في حفلات الزفاف أو المناسبات الموسمية، بينما ظل دورها الفعلي كمنتجة للمعرفة والثقافة في الظل بعيداً عن الوثائق، تتناقله الألسن. في مقابل هذا الإقصاء من التوثيق الرسمي، حافظت الذاكرة الشفوية على حضور المرأة بوصفها حاملة للتراث ومؤسِّسة للهوية. فالحكايات، والأغاني، والأمثال، وطقوس المناسبات، كانت تُروى وتُمارس في البيوت، في القرى، تحت ضوء الفوانيس. وتشير اليونسكو إلى أهمية هذه التقاليد الشفوية في نقل القيم والمعرفة، معتبرة أن الحفاظ على طقوس مثل "الجرتق" يُعزّز التماسك الاجتماعي ويقوّي قدرة المجتمعات على الصمود، لا سيما في أزمنة التفكك والانهيار.

و بالتأكيد لا يمكن اختزال دور المرأة السودانية في صورة واحدة؛ ففي الريف، حافظن على طقوس الحناء والجرتق، وأشرَفن على موسم الحصاد وتنظيم المناسبات الاجتماعية، بينما كانت نساء المدن يخضن معارك التحرر السياسي، من مواكب الثورة إلى مبادرات المجتمع المدني. هذا التنوع لا يعكس فقط تفاوتاً جغرافياً، بل يكشف عن تداخلات طبقية وثقافية داخل النضال النسوي نفسه؛ ففي أم درمان مثلاً، قد تكون المرأة ناشطة تكتب بياناً سياسياً بالمساء، لكنها في الصباح تُعد الطعام في تكية الحي أو تُشرف على جلسة حناء شعبية. إنها ليست قالباً واحداً، بل نسيج حيّ يتداخل فيه الفعل الرمزي مع النضال اليومي. الحركة النسوية الراهنة لم تكن بمنأى عن هذه التعقيدات. فبينما قادتها نساء في العاصمة والمدن الكبري، رافعات شعارات الحرية والتمثيل، كانت أخريات في القرى والأطراف يدافعن عن أمنهن الغذائي وصمودهن الاقتصادي، سلاحهن أدوات الطهي والزراعة والكدّ اليومي. هذا التباين في الأولويات لا ينتقص من أي نضال، بل يُثبت أن النسوية السودانية ليست خطاً مستقيماً، بل خريطة متشابكة من الأدوار والهموم.

من بين نساء السودان اللاتي أصبحن رموزاً، برزت فاطمة محمد الحسن، مؤسِّسة متحف نساء دارفور في نيالا عام ١٩٨٥. لم تكتف فاطمة بجمع القطع التراثية التي تُظهر تنوع القبائل وتقاليدها، بل أطلقت الفعاليات والمحاضرات وورش الحرف التقليدية، وأدارَت برامج إذاعية عن الفولكلور في راديو نيالا. من خلال هذا العمل، نجَدت صوت التراث السوداني وعَلَقت جذوره في الأجيال الجديدة، كصوت نسائي مقاوم وسط الصراع المستعصي على دارفور. و الآن، مع دخول الحرب مرحلة استنزاف طويلة، وغياب الدولة عن أداء وظائفها الأساسية، برزت من جديد مقاومة نسوية ناعمة تحمل طابعاً ثقافياً واجتماعياً، ظهرت جلياً كتكايا طعام في الأحياء الفقيرة كمراكز للتكافل، تُديرها نساء مثل ميساء محمد الأمين، التي أنشأت "مبادرة سندك يا وطن" كتكية لإطعام الجوعى. هذا الفعل البسيط، في جوهره، ليس إحساناً، بل تعبيراً صلباً عن التضامن، وبناء شبكة اجتماعية تُقاوم الانهيار كما تراه ميساء.

على الجانب الآخر، ومع تهالك البنية الإعلامية الرسمية، خصوصاً ضياع تسجيلات مهمة من أرشيف تلفزيون السودان، ونهب المتاحف وحرق الأراشيف، كما حدث في المتحف القومي للآثار، لجأت الشابات السودانيات في المهجر إلى الفضاء الرقمي لحفظ ما يمكن إنقاذه من الذاكرة. عبر "إنستغرام"، و"تيليغرام"، و"تيك توك"، تُبث الأغنيات القديمة مع شرح المعاني والتعريف بزمانها ومكانها، كما تَعرض بعضهن وصفات الأكلات السودانية، وتَروى بعضهن الحكايات، و هكذا تُعاد صياغة المشهد الشعبي السوداني بأدوات جديدة، عبر هذه المبادرات، وإن بدت متفرقة، إلا أنها تُشكِّل تياراً موازياً لحفظ التراث في لحظة الانقطاع. من بين هذه المبادرات، تبرز تجربة مآب معاوية سليمان شميس، المعروفة باسم mozarila0 على تيك توك، التي تقدم محتوى تراثياً متنوعاً بأساليب مبتكرة وتفاعلية. تجمع مآب جمهورها عبر فقرات مباشرة تتضمن مسابقات وأسئلة عن التراث، وتحرص على تمثيل مختلف مناطق السودان، من الشمال إلى الشرق والغرب، بغرض تقليل التحيّزات المناطقية والعنصرية. تقول مآب: "بدأ الناس في الاندماج، وأتطلع إلى وحدة حقيقية في المستقبل القريب؛ فالأجيال الجديدة لديها القابلية، وأُفقها أوسع".

تهتم مآب كذلك بتوثيق الأغنيات، مع ترجمتها من اللغات المختلفة إلى العربية، وتعيد تقديم أغاني البنات، وغناء السيرة، وأغاني الحقيبة، وحتى الريميكسات المعاصرة، في محاولة منها لخلق وحدة ثقافية حية داخل الفضاء الرقمي، تعكس التنوع السوداني وتمنح الجيل الجديد نافذة رحبة على ماضيه الثقافي. لكن يظل هنالك سؤال قائم: هل تستطيع النسوية الرقمية في المهجر أن تُحدث تأثيراً حقيقياً على الواقع القاسي في الداخل؟ وهل يمكن للتراث الرقمي أن يُجاري عمق التجربة الحسية والشفوية؟ هذا التساؤل لا ينتقص من قيمة هذه الجهود، بل يضعها في سياقها الزمني والمعرفي، مُبرزاً كيف تسهم هذه المبادرات في توثيق الذاكرة النسوية وصون التراث، خاصة في ظل تشتت الأجيال وتبدّل الوسائط، يمكن النظر لها كمحاولة لبناء جسر رقمي يربط بين الماضي والحاضر.

في زمن تحوّل فيه كيان الدولة إلى خرائب، ولم يبقَ من الوطن سوى الذاكرة. والمرأة التي تقف في قلب هذا المشهد، حارسةً لما تبقّى من روحه، و حفظها للتراث، في هذا السياق، يتجاوز كونه عملاً ثقافياً؛ إلى فعل مقاومة وجزء من إعادة الإعمار، التي بدأنها النساء من رائحة البخور في خيمة نزوح، ومن أغنية تهمس بها أم لابنتها في عزّ الحرب الدائرة الآن، و بالتأكيد عبر توثيق الأغاني والقصص القديمة على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن أمام هذا الواقع المعقد، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن دمج جهود الأرشفة الرقمية مع العمل الميداني للمرأة في الداخل، لبناء حركة ثقافية أكثر شمولًا وتأثيراً في مستقبل السودان؟.

صورة الغلاف التقطها عصام عبد الحفيظ