الدبليبة لا تنطفئ: طقوس الطعام في المسيد السوداني
لمسيد الشيخ ود بدر في أم ضواً بان قصة مشهورة، وهي قصة الشيخ العبيد ود بدر و" الدبليبة"
/ الاجابات
حين يتجاور الخبز والذكر
لمسيد الشيخ ود بدر في أم ضواً بان قصة مشهورة، وهي قصة الشيخ العبيد ود بدر و" الدبليبة" - الكسرة التي لم تنقطع لمدة ١٧٠ سنة، والتي ارتبطت بمعجزة بقاء النار مشتعلة دون انطفاء أو نفاد الطحين، وتُعد من أعجب مظاهر التكية السودانية في تجليها اليومي؛ إذ تُطهى عليها العصيدة بلا انقطاع، في حركة دائرية تشبه حلقات الذكر التي لا تتوقف في ذات الفناء. وتُشير هذه النار إلى نار القرآن كما تشير إلى نار الطعام، وتحمل رمزية متجذّرة في التراث السوداني، إذ يُحتَفَى بالذين يُوقِدُون النار ليلاً كرمز على الكرم والجذب، كما في الغناء الشعبي:"نارك توقد للفجر الوارث الشيخ ود بدر". وتتجلَّى النار كرمز لرسالة العلم في مدائح أخرى:
وين دشين قاضي العدالة الما بميل للضلالة
نسله نعم السلالة الأوقدوا نار الرسالة
استقرّ العبيد ود بدر بداية في منطقة النخيرة شرق أم ضواً بان، حيث أشعل نار"التُقَّابة" لتدريس القرآن وإكرام الضيوف بالعصيدة ("التُقَّابة" اسم يطلق في السودان على أماكن تحفيظ القرآن الكريم، وغالبا ما تكون ملاصقة للمسيد أو جزءًا منه، ويقيم فيها الطلبة لتلقي العلم وتلقي الرعاية الروحية والمادية). وقد لُقِّب حينها بـ"عوج الدرب"، وكان يقضي الخريف في النخيرة لزراعة الذرة، ثم ينتقل صيفاً إلى أم ضوَّاً بان، حتى استقرَّ بها وأسس مسيده الذي ازدهر لاحقاً. الكسرة التي كانت تُطهى منذ ذلك الزمن تُعرف بـ"الدبليبة"، وتُحضّر بعد عواستها في صاج ضخم، تُقطَّع بخشبة إلى أجزاء متساوية وترص في قدح خشبي، تُقَدَّم مُمَلَّحة بالروب أو الفاصوليا، بل ويأتي الناس للتبرك بها.
الشيخ ود بدركان يربط الطعام بالروح، ويحث مريديه على إطعام الآخرين، ويقول: "أدي اللقيمة، وعِدّ الكِليمة، وزيل الصريمة، وآخر الليل أُخُد ليك قويمة، شوف أكان ما تبقى من أهل النهيمة"، "أدي القرش وفرِّش البرش واملأ الكرش شوف كان ما الناس عليك تندرش"، من أقواله كذلك:" الما عندو محبة ما عندو الحَبّة"، "هنية من صلى عشاهو ومرق بعشاهو وقام آخر الليل صلى ليهو ركعتين لي مولاهو".
تعرف العصيدة أيضاً في بعض المسايد باسم "المهيوبة" أو "الله الله"، وهي طعام المحبين من حفظة القرآن والمريدين الهائمين في طريق القوم. تهابها النفوس المتكبرة ويعافها المترفون، لكنها في أعين المريدين بركة خالصة، ومصدر شفاء، وحاضنة لتواضع الجماعة. وقد جاء في المدائح وصفها:
"اللالوبة يا خداما
الليل بجيب كلاما
النوم بقالي ملاما
اللالوبة ياللالوبة
عــزوك في مهيوبـا
الولـد الكشف ملعـوبا
نال من زخـائـر كـوبا"
من مسيد الشيخ ود بدر، تمتد الحكاية إلى مسايد وخلاوي السودان المختلفة، حيث يُعاد إنتاج هذه المعاني، بتنوع في التفاصيل وثبات في الجوهر. يرتبط المسيد بالأرض والزراعة، حيث يفلح الشيخ وتلاميذه قطعة الأرض المجاورة، يزرعون الذرة ويحصدونها ويخزّنونها لاحقاً في "مخزن الميرة". تُطحن الذرة كل مساء، ويشرف الخليفة بنفسه على الطعام، من خروجه من المخزن إلى لحظة تقديمه، في دورة يومية لا تنكسر.
في عمق الحياة الصوفية في السودان، لا ينفصل الطعام عن الذكر، ولا النار عن النور. فحيث ترتل آيات الكتاب في المسيد، تشتعل في ركنه الآخر نار الدبليبة. نار مشتعلة تحت قدور العصيدة، كما في القلوب، تغذّي الحيران جسداً وروحاً. تظل النار مشتعلة طيلة العام، وكأنها تؤدي صلاةً لا تنقطع. أصبحت علامة مميزة لطريقة الشيخ ود بدر في تعليم القرآن وتربية الحيران، كما لا تنقطع المدائح التي تُتلَى في كل مساء، ولا الصلوات التي تُقام في ركن الذكر. هي أكثر من نار، هي طقس جماعي، وروح تمتد من زمن الشيخ ود بدر إلى مسايد السودان كافة.
ليست النار وحدها من تضيء هذا العالم، بل منظومة متكاملة من التكافل الاقتصادي والروحي والاجتماعي. ففي المسيد، يتغذى الطالب من إنتاج أرضه، ويأكل الضيف من صحن الجماعة، ويَمنح الأغنياء "الكرامة" للحيران، وتُوَزَّع الحبوب على منازل القرى، تُطهَى وتُعَاد إلى المسيد مع دعوات الخير. تتقاطع هذه النُظُم مع مفاهيم الحماية المجتمعية والاستقلال عن السوق، وتُشَكِّل شبكة أمان تستمرّ في العمل حتى في أزمنة الأزمات والحروب. وهكذا، تصبح النار رمزاً للمشاع، والكسرة ميثاقاً للصمود، والعصيدة صلاة من نوع آخر.
حين تُرَبَّى الأرواح على نار الكسرة
في المسيد جماعة من العُمال لجلب الحطب والدقيق والطعام، كما يشرع الطلبة في تنظيف الأرض الوعرة وزراعتها بمحصول الذرة وتخزينها بعد الحصاد، ويكون هذا المحصول دعما لـ"تكية " المسيد.
في حجرة الطعام، تعمل مجموعة من النسوة المتفاوتات الأعمار بانهماك على إعداد الطعام للطلبة، يفعلن ذلك تَقرُّباً إلى الله. حيث لا يعد الطعام نشاطاً منزلياً منفصلاً، بل جزءً من منظومة تربوية جماعية تُغرس فيها القيم الروحية والعمليّة معاً. يتقاسم الحيران والطلاب مسؤوليات إعداد الطعام، كلٌّ حسب موقعه الزمني داخل المسيد. فالجُدد يُكَلَّفون بجمع الحطب وتنظيف القدور، بينما يتقدم الآخرون إلى مراحل العواسة وتحضير الكسرة والعصيدة والمشروبات كالحلو مر والآبري الأبيض.
تعد عملية إعداد "الدبليبة" نفسها طقساً جماعيَّاً مُنَسَّقاً، إذ يُوضع الطحين في صاج ضخم يُحرَّك بواسطة "الملود"، ويتعاون أربعة من الحيران على تحريكه حتى تنضج الكسرة، ثم تُقَطَّع إلى أجزاء متساوية وتُرصّ في قدح خشبي لتُقدَّم مُمَلَّحة بالروب أو الفاصوليا. هذه العملية تعاد مراراً طوال اليوم، ويستهلك المسيد ما بين ١٠ إلى ٣٠ جوالاً من الدقيق يومياً لإطعام ما يزيد عن ١٥٠٠ طالب وزائر. يُسهم الذكور كذلك في بناء الفرن وتنظيف ساحات الطعام، وينقل الطعام جماعياً في صفوف منظمة تُظهِر الانضباط والتعاون. يُطلق على هذا النظام الجماعي اسم "العمار"، وله أيامه وتقسيماته الدقيقة، حيث يكون العمل نفسه نوعاً من العبادة، وحركة البدن وسيلة لصقل النفس. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى الطعام كضرورة فيسيولوجية فحسب، بل كممارسة طقسية تؤسس لمعنى الانتماء، وتُعزِّز العلاقة بين الطالب والمكان وبين الفرد والمجموعة.
وفي الوقت ذاته تُسهم النساء من داخل القرية أو المجاورات للمسيد في إعداد الطعام، خاصة في "بيت الطياب"، حيث تُحضَّر الفتة والعصيدة وتُجهز الموائد في المناسبات. يشرف الخليفة أو الشيخ على التنسيق بين فرق الإعداد، ويُحدَّد نظام التوزيع وفقاً للسن والمقام، كلّ حركة في إعداد الطعام تُعدّ جزءاً من التزكية، وكل وجبة تُقدَّم تُعتَبر صدقة جارية في ميزان الجماعة.
حين تُوقَد التكيّة في زمن الحرب
في السودان، لا تُعد التكية مجرد مكان لإعداد الطعام، بل هي بنية اجتماعية وروحية متجذرة في الوعي الجمعي. وقد أخذت التكية شكلها التاريخي في المسايد والخلاوي، حيث تلازمت مع حلقات الذكر وتعليم القرآن، وكانت "بيت الطياب" -تلك الحجرة السوداء المعتمة الملبدة بدخان الحطب- القلب النابض للحياة اليومية. هناك، تُطهى العصيدة وتُسقى الأرواح، ويُعاد إنتاج المعنى عبر نارٍ لا تنطفئ.
غير أن هذه النار انتقلت من شكلها التقليدي إلى تجليات أكثر مرونة واستجابة، خصوصاً في لحظات الكارثة. ففي أعقاب اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، ومع انهيار سلاسل الإمداد وتوقف الأسواق وشلل الدولة، برزت "مطابخ الطوارئ" أو "تكايا الأحياء" كامتداد حديث لفكرة التكية. هذه المبادرات، ظهرت في أحياء عدة من العاصمة الخرطوم وأطرافها كمبادرات محلية جماعية لتوفير الطعام للنازحين والسكان المتضررين. أقيمت هذه المطابخ في مواقع متعددة؛ بعضها داخل باحات المسايد القديمة، حيث تمت استعادة الفضاءات التقليدية داخل المسايد الكبرى، مثل مسيد الشيخ الياقوت ومسيد أبو قرون؛ حيث استخدمت بيوت الطياب والمخازن القديمة كمقرات لإعداد الطعام للنازحين. لكن الغالبية الكبرى نشأت من الصفر، بقدرين وحطب، وبأيدي نساء الأحياء وشباب لجان المقاومة في الساحات العامة وداخل مدارس تحولت إلى مراكز إيواء، أو حتى داخل منازل المتطوعين. في هذه المطابخ، لم يكن الطهي مجرد فعل بيولوجي، بل ممارسة للمقاومة وحفظ الكرامة. كانت النساء والشباب يعدون الطعام بالنية نفسها التي كانت تُعد بها في المسيد: نية الجماعة، وسند الضعيف، وستر الجائع.
كما في الماضي، كانت التكية ترتبط بالأرض، تسندها الحقول ومواسم الحصاد، وتشرف عليها القيادة الروحية للشيخ. وفي زمن الحرب، تبدّلت الأرض، وغاب الحصاد، تلك الروح بقيت. أضحى الدعم يأتي من تحويلات المغتربين، من التبرعات العينية، ومن حملات التضامن الرقمية. لكن النار مازالت مشتعلة ، والنية لم تخمد.
داخل مطابخ الطوارئ، كما في التكايا القديمة، برز نظام تقسيم عمل دقيق يعتمد على الروح الجماعية والتكافل الشعبي. في العادة، تُقسَّم المهام وفقاً للقدرات والتوافر، تتولى النساء المهام الأساسية للطهي، بينما يتكفل الرجال بشراء المستلزمات من الأسواق، وجلب المياه، وتوفير الغاز أو الحطب في ظل شح الموارد. كما يساهم الشباب من الجنسين في توزيع الطعام وتنظيم الطوابير.
تُنظَّم هذه الأعمال اليومية عبر جداول يدوية أو شفوية، ويُعتَمَد على متطوعين دائمين وآخرين يتناوبون بحسب الوقت والقدرة. في بعض الحالات، يضم المطبخ "مشرفاً عاماً" مسؤولاً عن التنسيق والإمداد، بينما يوزع المسؤولون الآخرون على المهام اللوجيستية، المطبخ، التوزيع، التنظيم، والمتابعة.
لم تكن هذه المطابخ مجرد مبادرات إغاثية، بل أعادت إنتاج مبدأ التكية في سياق معاصر، حيث أصبح إعداد الطعام فعلاً جماعياً تعبيريّاً عن الصمود الأهلي، وتحول من نشاط منزلي إلى ممارسة مجتمعية ذات بعد شعائري. حافظت هذه المطابخ رغم بساطتها، على شبكة دعم مجتمعية واجهت انهيارالأسواق وندرة الموارد، واستعادت الوظيفة الرمزية للطعام كمجال لبناء التضامن، وتثبيت المعنى وسط الفوضى.
لم تكن هناك حاجة لبنى تنظيمية بيروقراطية، بل تكفَّلت الثقة والمعرفة المحلية بتنظيم العمل، تماماً كما كان الحال في المسيد، حين يُنجَز الكثير بالقليل، حين تُصبح النار علامة حياة، ويصير الطبخ صلاة في حضرة الجوع.
حين تصير النار صلاة
في بلد تتعاقب عليه الأزمات، وتطفئ الحرب أنوار البيوت، تظل نار المسيد مشتعلة لا كمعجزة فحسب، بل كعلامة حياة. من "الدبليبة" التي تُطهَى في فناء الشيخ ود بدر، إلى قدر البليلة في مطبخ الطوارئ بحي متهالك في الخرطوم، تنتقل الشعلة لا بوساطة الحطب وحده، بل بما لا يُرى: النية، المحبة، واليقين.
لم تكن التكية يوماً مطبخاً لتوزيع الطعام فحسب، بل فضاء يتقاطع فيه الذكر مع العمل، ويذوب فيه الجوع في سخاء الجماعة. حين اشتد الحصار واشتعلت الخرطوم، عادت التكية لا كماضٍ نوثقه، بل كحاضر يُنقِذ. صارت مطابخ الطوارئ امتداداً صادقاً لذلك الإرث، حيث يتحلّق الناس حول النار، لا ليأكلوا فقط، بل ليحفظوا ما تبقى من إنسانيتهم.
تُشعل النساء النار بقلوبهن، ويحملها الحيران في أجسادهم، ويتبرك بها القادمون من التيه. في كل مرة يُسكَب فيها الطعام، تُسكَبُ معه ذاكرة؛ ذاكرة النار التي لا تنطفئ، والنفس التي لا تُكسَر.
صورة الغلاف التقطها عاطف سعد
المراجع
- الأطعمة الطقسية، مجلة مذاق خاص،العدد الأول ،ديسمبر ٢٠١٧م ، أكسس ديزاين أند بروموشن.
- الطيب محمد الطيب ، المسيد، دار عزة للنشر و التوزيع ،الخرطوم ،٢٠٠٥م.
- محمد الفاتح يوسف أبو عاقلة ، مفاهيم حول الأطعمة التقليدية في طبقات ود ضيف الله ، مؤتمر كتاب طبقات ود ضيف الله، ( سنار عاصمة الثقافة الاسلامية ٢٠١٧م ) ، جامعة الخرطوم ، أغسطس ٢٠١٥م.
- محمد ضيف الله بن محمد الجعلي الفضلي ، كتاب الطبقات " في خصوص الأولياء و الصالحين و العلماء و الشعراء في السودان" ، الدار السودانية للكتب ، الطبعة الأولى ، الخرطوم، ٢٠٠٩م
- عبد الرحمن أحمد عثمان، الصوفية بالسودان" محددات ثقافية وأوعية للعمل الاجتماعي"، دار جامعة أفريقيا العالمية للطباعة ، الخرطوم، ٢٠٠٤م.
- شرف الدين الأمين عبد السلام، ترجمة يوسف حسن مدنيو محمد المهدي بشرى، تحرير الأمين أبو منقة، كرامات الأولياء " دراسة في سياقها الاجتماعي و الثقافي "، معهد الدراسات الأفريقية و الآسيوية ، الخرطوم، ٢٠٠٧م.
- عمر محمد عبدالله ، مقابلة شفاهية، عضو في لجنة حي الجريف غرب.
حين يتجاور الخبز والذكر
لمسيد الشيخ ود بدر في أم ضواً بان قصة مشهورة، وهي قصة الشيخ العبيد ود بدر و" الدبليبة" - الكسرة التي لم تنقطع لمدة ١٧٠ سنة، والتي ارتبطت بمعجزة بقاء النار مشتعلة دون انطفاء أو نفاد الطحين، وتُعد من أعجب مظاهر التكية السودانية في تجليها اليومي؛ إذ تُطهى عليها العصيدة بلا انقطاع، في حركة دائرية تشبه حلقات الذكر التي لا تتوقف في ذات الفناء. وتُشير هذه النار إلى نار القرآن كما تشير إلى نار الطعام، وتحمل رمزية متجذّرة في التراث السوداني، إذ يُحتَفَى بالذين يُوقِدُون النار ليلاً كرمز على الكرم والجذب، كما في الغناء الشعبي:"نارك توقد للفجر الوارث الشيخ ود بدر". وتتجلَّى النار كرمز لرسالة العلم في مدائح أخرى:
وين دشين قاضي العدالة الما بميل للضلالة
نسله نعم السلالة الأوقدوا نار الرسالة
استقرّ العبيد ود بدر بداية في منطقة النخيرة شرق أم ضواً بان، حيث أشعل نار"التُقَّابة" لتدريس القرآن وإكرام الضيوف بالعصيدة ("التُقَّابة" اسم يطلق في السودان على أماكن تحفيظ القرآن الكريم، وغالبا ما تكون ملاصقة للمسيد أو جزءًا منه، ويقيم فيها الطلبة لتلقي العلم وتلقي الرعاية الروحية والمادية). وقد لُقِّب حينها بـ"عوج الدرب"، وكان يقضي الخريف في النخيرة لزراعة الذرة، ثم ينتقل صيفاً إلى أم ضوَّاً بان، حتى استقرَّ بها وأسس مسيده الذي ازدهر لاحقاً. الكسرة التي كانت تُطهى منذ ذلك الزمن تُعرف بـ"الدبليبة"، وتُحضّر بعد عواستها في صاج ضخم، تُقطَّع بخشبة إلى أجزاء متساوية وترص في قدح خشبي، تُقَدَّم مُمَلَّحة بالروب أو الفاصوليا، بل ويأتي الناس للتبرك بها.
الشيخ ود بدركان يربط الطعام بالروح، ويحث مريديه على إطعام الآخرين، ويقول: "أدي اللقيمة، وعِدّ الكِليمة، وزيل الصريمة، وآخر الليل أُخُد ليك قويمة، شوف أكان ما تبقى من أهل النهيمة"، "أدي القرش وفرِّش البرش واملأ الكرش شوف كان ما الناس عليك تندرش"، من أقواله كذلك:" الما عندو محبة ما عندو الحَبّة"، "هنية من صلى عشاهو ومرق بعشاهو وقام آخر الليل صلى ليهو ركعتين لي مولاهو".
تعرف العصيدة أيضاً في بعض المسايد باسم "المهيوبة" أو "الله الله"، وهي طعام المحبين من حفظة القرآن والمريدين الهائمين في طريق القوم. تهابها النفوس المتكبرة ويعافها المترفون، لكنها في أعين المريدين بركة خالصة، ومصدر شفاء، وحاضنة لتواضع الجماعة. وقد جاء في المدائح وصفها:
"اللالوبة يا خداما
الليل بجيب كلاما
النوم بقالي ملاما
اللالوبة ياللالوبة
عــزوك في مهيوبـا
الولـد الكشف ملعـوبا
نال من زخـائـر كـوبا"
من مسيد الشيخ ود بدر، تمتد الحكاية إلى مسايد وخلاوي السودان المختلفة، حيث يُعاد إنتاج هذه المعاني، بتنوع في التفاصيل وثبات في الجوهر. يرتبط المسيد بالأرض والزراعة، حيث يفلح الشيخ وتلاميذه قطعة الأرض المجاورة، يزرعون الذرة ويحصدونها ويخزّنونها لاحقاً في "مخزن الميرة". تُطحن الذرة كل مساء، ويشرف الخليفة بنفسه على الطعام، من خروجه من المخزن إلى لحظة تقديمه، في دورة يومية لا تنكسر.
في عمق الحياة الصوفية في السودان، لا ينفصل الطعام عن الذكر، ولا النار عن النور. فحيث ترتل آيات الكتاب في المسيد، تشتعل في ركنه الآخر نار الدبليبة. نار مشتعلة تحت قدور العصيدة، كما في القلوب، تغذّي الحيران جسداً وروحاً. تظل النار مشتعلة طيلة العام، وكأنها تؤدي صلاةً لا تنقطع. أصبحت علامة مميزة لطريقة الشيخ ود بدر في تعليم القرآن وتربية الحيران، كما لا تنقطع المدائح التي تُتلَى في كل مساء، ولا الصلوات التي تُقام في ركن الذكر. هي أكثر من نار، هي طقس جماعي، وروح تمتد من زمن الشيخ ود بدر إلى مسايد السودان كافة.
ليست النار وحدها من تضيء هذا العالم، بل منظومة متكاملة من التكافل الاقتصادي والروحي والاجتماعي. ففي المسيد، يتغذى الطالب من إنتاج أرضه، ويأكل الضيف من صحن الجماعة، ويَمنح الأغنياء "الكرامة" للحيران، وتُوَزَّع الحبوب على منازل القرى، تُطهَى وتُعَاد إلى المسيد مع دعوات الخير. تتقاطع هذه النُظُم مع مفاهيم الحماية المجتمعية والاستقلال عن السوق، وتُشَكِّل شبكة أمان تستمرّ في العمل حتى في أزمنة الأزمات والحروب. وهكذا، تصبح النار رمزاً للمشاع، والكسرة ميثاقاً للصمود، والعصيدة صلاة من نوع آخر.
حين تُرَبَّى الأرواح على نار الكسرة
في المسيد جماعة من العُمال لجلب الحطب والدقيق والطعام، كما يشرع الطلبة في تنظيف الأرض الوعرة وزراعتها بمحصول الذرة وتخزينها بعد الحصاد، ويكون هذا المحصول دعما لـ"تكية " المسيد.
في حجرة الطعام، تعمل مجموعة من النسوة المتفاوتات الأعمار بانهماك على إعداد الطعام للطلبة، يفعلن ذلك تَقرُّباً إلى الله. حيث لا يعد الطعام نشاطاً منزلياً منفصلاً، بل جزءً من منظومة تربوية جماعية تُغرس فيها القيم الروحية والعمليّة معاً. يتقاسم الحيران والطلاب مسؤوليات إعداد الطعام، كلٌّ حسب موقعه الزمني داخل المسيد. فالجُدد يُكَلَّفون بجمع الحطب وتنظيف القدور، بينما يتقدم الآخرون إلى مراحل العواسة وتحضير الكسرة والعصيدة والمشروبات كالحلو مر والآبري الأبيض.
تعد عملية إعداد "الدبليبة" نفسها طقساً جماعيَّاً مُنَسَّقاً، إذ يُوضع الطحين في صاج ضخم يُحرَّك بواسطة "الملود"، ويتعاون أربعة من الحيران على تحريكه حتى تنضج الكسرة، ثم تُقَطَّع إلى أجزاء متساوية وتُرصّ في قدح خشبي لتُقدَّم مُمَلَّحة بالروب أو الفاصوليا. هذه العملية تعاد مراراً طوال اليوم، ويستهلك المسيد ما بين ١٠ إلى ٣٠ جوالاً من الدقيق يومياً لإطعام ما يزيد عن ١٥٠٠ طالب وزائر. يُسهم الذكور كذلك في بناء الفرن وتنظيف ساحات الطعام، وينقل الطعام جماعياً في صفوف منظمة تُظهِر الانضباط والتعاون. يُطلق على هذا النظام الجماعي اسم "العمار"، وله أيامه وتقسيماته الدقيقة، حيث يكون العمل نفسه نوعاً من العبادة، وحركة البدن وسيلة لصقل النفس. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى الطعام كضرورة فيسيولوجية فحسب، بل كممارسة طقسية تؤسس لمعنى الانتماء، وتُعزِّز العلاقة بين الطالب والمكان وبين الفرد والمجموعة.
وفي الوقت ذاته تُسهم النساء من داخل القرية أو المجاورات للمسيد في إعداد الطعام، خاصة في "بيت الطياب"، حيث تُحضَّر الفتة والعصيدة وتُجهز الموائد في المناسبات. يشرف الخليفة أو الشيخ على التنسيق بين فرق الإعداد، ويُحدَّد نظام التوزيع وفقاً للسن والمقام، كلّ حركة في إعداد الطعام تُعدّ جزءاً من التزكية، وكل وجبة تُقدَّم تُعتَبر صدقة جارية في ميزان الجماعة.
حين تُوقَد التكيّة في زمن الحرب
في السودان، لا تُعد التكية مجرد مكان لإعداد الطعام، بل هي بنية اجتماعية وروحية متجذرة في الوعي الجمعي. وقد أخذت التكية شكلها التاريخي في المسايد والخلاوي، حيث تلازمت مع حلقات الذكر وتعليم القرآن، وكانت "بيت الطياب" -تلك الحجرة السوداء المعتمة الملبدة بدخان الحطب- القلب النابض للحياة اليومية. هناك، تُطهى العصيدة وتُسقى الأرواح، ويُعاد إنتاج المعنى عبر نارٍ لا تنطفئ.
غير أن هذه النار انتقلت من شكلها التقليدي إلى تجليات أكثر مرونة واستجابة، خصوصاً في لحظات الكارثة. ففي أعقاب اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، ومع انهيار سلاسل الإمداد وتوقف الأسواق وشلل الدولة، برزت "مطابخ الطوارئ" أو "تكايا الأحياء" كامتداد حديث لفكرة التكية. هذه المبادرات، ظهرت في أحياء عدة من العاصمة الخرطوم وأطرافها كمبادرات محلية جماعية لتوفير الطعام للنازحين والسكان المتضررين. أقيمت هذه المطابخ في مواقع متعددة؛ بعضها داخل باحات المسايد القديمة، حيث تمت استعادة الفضاءات التقليدية داخل المسايد الكبرى، مثل مسيد الشيخ الياقوت ومسيد أبو قرون؛ حيث استخدمت بيوت الطياب والمخازن القديمة كمقرات لإعداد الطعام للنازحين. لكن الغالبية الكبرى نشأت من الصفر، بقدرين وحطب، وبأيدي نساء الأحياء وشباب لجان المقاومة في الساحات العامة وداخل مدارس تحولت إلى مراكز إيواء، أو حتى داخل منازل المتطوعين. في هذه المطابخ، لم يكن الطهي مجرد فعل بيولوجي، بل ممارسة للمقاومة وحفظ الكرامة. كانت النساء والشباب يعدون الطعام بالنية نفسها التي كانت تُعد بها في المسيد: نية الجماعة، وسند الضعيف، وستر الجائع.
كما في الماضي، كانت التكية ترتبط بالأرض، تسندها الحقول ومواسم الحصاد، وتشرف عليها القيادة الروحية للشيخ. وفي زمن الحرب، تبدّلت الأرض، وغاب الحصاد، تلك الروح بقيت. أضحى الدعم يأتي من تحويلات المغتربين، من التبرعات العينية، ومن حملات التضامن الرقمية. لكن النار مازالت مشتعلة ، والنية لم تخمد.
داخل مطابخ الطوارئ، كما في التكايا القديمة، برز نظام تقسيم عمل دقيق يعتمد على الروح الجماعية والتكافل الشعبي. في العادة، تُقسَّم المهام وفقاً للقدرات والتوافر، تتولى النساء المهام الأساسية للطهي، بينما يتكفل الرجال بشراء المستلزمات من الأسواق، وجلب المياه، وتوفير الغاز أو الحطب في ظل شح الموارد. كما يساهم الشباب من الجنسين في توزيع الطعام وتنظيم الطوابير.
تُنظَّم هذه الأعمال اليومية عبر جداول يدوية أو شفوية، ويُعتَمَد على متطوعين دائمين وآخرين يتناوبون بحسب الوقت والقدرة. في بعض الحالات، يضم المطبخ "مشرفاً عاماً" مسؤولاً عن التنسيق والإمداد، بينما يوزع المسؤولون الآخرون على المهام اللوجيستية، المطبخ، التوزيع، التنظيم، والمتابعة.
لم تكن هذه المطابخ مجرد مبادرات إغاثية، بل أعادت إنتاج مبدأ التكية في سياق معاصر، حيث أصبح إعداد الطعام فعلاً جماعياً تعبيريّاً عن الصمود الأهلي، وتحول من نشاط منزلي إلى ممارسة مجتمعية ذات بعد شعائري. حافظت هذه المطابخ رغم بساطتها، على شبكة دعم مجتمعية واجهت انهيارالأسواق وندرة الموارد، واستعادت الوظيفة الرمزية للطعام كمجال لبناء التضامن، وتثبيت المعنى وسط الفوضى.
لم تكن هناك حاجة لبنى تنظيمية بيروقراطية، بل تكفَّلت الثقة والمعرفة المحلية بتنظيم العمل، تماماً كما كان الحال في المسيد، حين يُنجَز الكثير بالقليل، حين تُصبح النار علامة حياة، ويصير الطبخ صلاة في حضرة الجوع.
حين تصير النار صلاة
في بلد تتعاقب عليه الأزمات، وتطفئ الحرب أنوار البيوت، تظل نار المسيد مشتعلة لا كمعجزة فحسب، بل كعلامة حياة. من "الدبليبة" التي تُطهَى في فناء الشيخ ود بدر، إلى قدر البليلة في مطبخ الطوارئ بحي متهالك في الخرطوم، تنتقل الشعلة لا بوساطة الحطب وحده، بل بما لا يُرى: النية، المحبة، واليقين.
لم تكن التكية يوماً مطبخاً لتوزيع الطعام فحسب، بل فضاء يتقاطع فيه الذكر مع العمل، ويذوب فيه الجوع في سخاء الجماعة. حين اشتد الحصار واشتعلت الخرطوم، عادت التكية لا كماضٍ نوثقه، بل كحاضر يُنقِذ. صارت مطابخ الطوارئ امتداداً صادقاً لذلك الإرث، حيث يتحلّق الناس حول النار، لا ليأكلوا فقط، بل ليحفظوا ما تبقى من إنسانيتهم.
تُشعل النساء النار بقلوبهن، ويحملها الحيران في أجسادهم، ويتبرك بها القادمون من التيه. في كل مرة يُسكَب فيها الطعام، تُسكَبُ معه ذاكرة؛ ذاكرة النار التي لا تنطفئ، والنفس التي لا تُكسَر.
صورة الغلاف التقطها عاطف سعد
المراجع
- الأطعمة الطقسية، مجلة مذاق خاص،العدد الأول ،ديسمبر ٢٠١٧م ، أكسس ديزاين أند بروموشن.
- الطيب محمد الطيب ، المسيد، دار عزة للنشر و التوزيع ،الخرطوم ،٢٠٠٥م.
- محمد الفاتح يوسف أبو عاقلة ، مفاهيم حول الأطعمة التقليدية في طبقات ود ضيف الله ، مؤتمر كتاب طبقات ود ضيف الله، ( سنار عاصمة الثقافة الاسلامية ٢٠١٧م ) ، جامعة الخرطوم ، أغسطس ٢٠١٥م.
- محمد ضيف الله بن محمد الجعلي الفضلي ، كتاب الطبقات " في خصوص الأولياء و الصالحين و العلماء و الشعراء في السودان" ، الدار السودانية للكتب ، الطبعة الأولى ، الخرطوم، ٢٠٠٩م
- عبد الرحمن أحمد عثمان، الصوفية بالسودان" محددات ثقافية وأوعية للعمل الاجتماعي"، دار جامعة أفريقيا العالمية للطباعة ، الخرطوم، ٢٠٠٤م.
- شرف الدين الأمين عبد السلام، ترجمة يوسف حسن مدنيو محمد المهدي بشرى، تحرير الأمين أبو منقة، كرامات الأولياء " دراسة في سياقها الاجتماعي و الثقافي "، معهد الدراسات الأفريقية و الآسيوية ، الخرطوم، ٢٠٠٧م.
- عمر محمد عبدالله ، مقابلة شفاهية، عضو في لجنة حي الجريف غرب.

.jpg)



