باتجاه الشمال
السفر بكل أشكاله طقس قديم قِدم الزمان نفسه. فلطالما ارتحل البشر: بحثاً عن الطعام، أو المأوى، أو التماساً للأمان، أو رغبة في الاستكشاف، أو لأداء شعيرة الحج

/ الاجابات
تلقّى والدي، قبل عدة أعوام، دعوة من بعض أقاربنا لمشاركتهم رحلة استثنائية تنطلق من السودان إلى مصر. وتكمن فَرَادة هذه الدعوة في أن الرحلة المزمعة كانت رحلة برية تقطع الصحراء القاحلة، على ظهور الجِمال، وعبر درب الأربعين العريق الذي طَرَقَته القوافل لقرون من الزمان. وهكذا فقد لوَّحت تلك الدعوة بفرصة نادرة لمرافقة آخر قافلة جمال لقبيلتنا "القراريش" في رحلتها الملحمية، العابرة للصحراء، إلى سوق الجمال في دراو بمصر، وذلك قبل أن يُشق طريق الأسفَلت الجديد، وتُحلّ الشاحنات محلّ الإبل.
والسفر بكل أشكاله طقس قديم قِدم الزمان نفسه. فلطالما ارتحل البشر: بحثاً عن الطعام، أو المأوى، أو التماساً للأمان، أو رغبة في الاستكشاف، أو لأداء شعيرة الحج. ثم يؤوبون من أسفارهم أحياناً إلى موطنهم الأول، حيث الوطن في الغالب هو المكان الذي يضعون فيه رحالهم وينعمون بالراحة. وأحياناً أخرى يكون الوطن هو ذات الغاية "البسطامية" التي ظلوا ينشدونها منذ البدء. وقد يأتي الارتحال طوعاً؛ طلباً لمراعٍ أكثر خضرة، أو صلات جديدة، أو فرص اقتصادية واعدة. أو قسرياً في أحيان أخرى؛ هرباً من العنف أو الجفاف، أو ارتهاناً للعبودية والنخاسة. وتتنوع وسائل السفر بين المشي على الأقدام، أو امتطاء ظهور الحيوانات، أو استخدام المركبات. وبغض النظر عن الوسيلة أو الدافع، يبقى خيطٌ مشترك يَربط بين جميع هذه الرحلات؛ وهو الترقّب أو الخوف من المجهول.
والسودان ليس استثناءً من هذا الحراك الدائم، فموقعه الفريد كبوابة إلى إفريقيا، ومعبر لكل من مكة ومصر، جعله، لقرون من الزمان، ملتقى طُرُقٍ حيويّ مائج بالحركة؛ حيث كانت قوافل الجمال، ولا تزال، جزءاً أصيلاً من هذا النسيج، تحمل ويُحمَل عليها إلى وجهات متعددة، على طُرقٍ منحوتةٍ في ذاكرة الأرض وإنسانها.
كما لا تقتصر فرادة الجمل -ذلك الكائن العجيب الذي أبدعه الخالق وحبَاه بما يؤهّله للعيش في هذه البيئة الصحراوية- على كونه "سفينة الصحراء"، وإن كان هذا الدور بحدّ ذاته استثنائياً ومثيراً للدهشة؛ فهو كائن يتمتّع بقدرة لا تُضاهى على التكيُّف مع الظروف القاسية من حرٍّ وجفاف، حيث يستطيع تحمل العيش بلا ماء أو طعام لثلاثة أسابيع متوالية، والتنقّل المستمر بخطوٍ ثابت وواثق، ولساعات طويلة دون كلل. بالإضافة لقدرته على حمل أضعاف ما تحمله سائر الدواب.

كما يُحظى الجمل بمكانة خاصة لتنوّع منتجاته؛ فَبالإضافة إلى أن لحمه يُعَد طعاماً شائعاً في بلدان عديدة، خاصة في مصر، فإن جِلده يُصدَّر إلى أوروبا لتُصنع منه أجود أنواع الجلود، فيما تُستَخدم عظامه في تكرير السكر. ولمنتجاته الأخرى كذلك سمعة تكاد تكون أسطورية، ولا سيما حليبُه، بل وحتى بوله الذي تُنسب إليه خصائص علاجية مذهلة. وقد شهدت بنفسي هذه الظاهرة الغريبة إبّان فترة عملي كطبيبة شابة في الخليج.
أذكر حينها أن طفلة بدوية شُخِّصت بسرطان الدم (اللوكيميا) في المستشفى الذي كنتُ أعمل فيه، لكن أسرتها رفضت أن تتلقَّى أي نوع من العلاج الطبي. ولم يكونوا يحضرونها إلى المستشفى إلا في الحالات الطارئة التي تصاب فيها بالحُمّى أو الإسهال. وقد تم تأكيد التشخيص أكثر من مرة عبر أخذ عينة من نخاع العظم، وهي عملية مؤلمة يُسحب فيها جزء من نخاع عظم الورك لمعرفة نوع خلايا الدم التي يُنتجها الجسم وكميتها. وفي إحدى الزيارات اللاحقة، وبعد تكرار الفحص، فوجئنا بأن نخاع العظم خالٍ من أي خلايا بيضاء سرطانية. وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً، إذ إن اللوكيميا لا تختفي فجأة. وعندها أَخبَرَنا أهلها بأنهم كانوا يُعطونها كل صباح زجاجة صغيرة من بول الإبل.
وللعجب، فقد أظهرت الفحوصات المتكرِّرة، خلال زيارات المتابعة، غياب أي أثر لخلايا الدم السرطانية. وبدا أن لبول الإبل تأثيراً شبيهاً بتأثير الكورتيكوستيرويدات، التي تثبّط إنتاج تلك الخلايا أو ربما تقضي عليها. غير أن هذا الأثر لم يَدُم طويلاً، إذ سرعان ما عاود المرض هجمته الشرسة، لتدخل الطفلة في نوبة حادة، وترحل عن الدنيا –مأسوفاً على طفولتها الغضّة– بعد شهرين فقط من عيد ميلادها الأول.
طُرُق الإبل بين السودان ومصر
لطالما شكَّلت الطرق الصحراوية شرياناً اقتصادياً حيوياً بين مصر والسودان، وعبره إلى سائر أرجاء إفريقيا. ورغم كل ما يتمتع به نهر النيل من عظمة، إلا أن دوره في التجارة بين البلدين اللذين يَصِلهما بوشيجتِه ظلَّ محدوداً، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى وجود ستة شلالات تتسبب في إعاقة الحركة التجارية. وبالمقابل، سهّل النيل مرور الغزاة على مر العصور، حاملاً السفن البخارية التي تعج بالمُبَشِّرين والجنود، ولعل أشهرها الحملة الفاشلة التي أُرسلت لإنقاذ تشارلز غوردون. بينما مثَّلت الطرق الصحراوية، ولا تزال، شرياناً لا غنى عنه، تنتقل عبره البضائع والعملات وكذلك الثقافة والعلائق بين السودان ومصر، ويتجلى من خلالها الأثر الثقافي للسودان على مصر.
وتتبع هذه الطرق مسارات المياه، العابرة للصحراء على امتداد سلاسل من الآبار المُوزعة في اتجاهات مختلفة. أما أهم ثلاثة طرق اعتمدتها قوافل الإبل على مر القرون بين السودان ومصر فهي على النحو التالي: طريق العبابدة، وطريق المحيلة للقوافل القادمة من الشرق، وطريق الأربعين للقادمين من الغرب. وأكبر هذه الطرق هو طريق العبابدة، نسبة إلى قبيلة العبابدة، ويعود تاريخه إلى عهد دولة الفونج. يبدأ هذا الطريق من قصر حسين خليفة باشا في الدامر، فيما يُعرف اليوم بولاية نهر النيل، مروراً بكروسكو ووصولاً إلى أسوان ثم سوق دراو في مصر. وقد لعب هذا الطريق دوراً بالغ الأهمية في المنطقة، وكذلك للحكومات المختلفة في السودان.
ونأتي إلى الطريق الثاني وهو طريق المحيلة، الممتد من الكاسينجر في ولاية الشمالية إلى دلقو، ويضم عبر امتداده ثمانية آبار. أما الطريق الثالث فهو طريق الأربعين، المعروف بدرب الأربعين، الذي تسلكه القوافل القادمة على الأغلب من جهة قبائل الكَبَابِيش في دارفور غرب السودان، وتستغرق الرحلة عبره نحو أربعين يوماً من نقطة الانطلاق وحتى الوصول. ومع ذلك، يُعتقد أن اسم "درب الأربعين" لا يقتصر على الإشارة إلى تلك المدة الزمنية فحسب، بل يشير أيضاً للرحلات العجائبية التي قطعها الدراويش راجلين على هذا الطريق، وللمعجزات التي تنسب لهم فيما يتعلق باجتيازهم لمداه الشاسع سيراً على الأقدام.
تجدر الإشارة أنه وحتى عام ١٩٨٥، كان هناك طريق رابع للقوافل: يُعرف بطريق المديناب، الذي يُنسب لقبيلة المديناب، والتي كانت تسافر في قوافل ضخمة تصل إلى ألفي جمل إلى مصر. وكان هذا الطريق فريداً من نوعه، إذ لم يكن فيه آبار مياه على الإطلاق، وكان من المستحيل عبوره لو لا استخدام القبيلة لأكياس جلدية خاصة مُقاومة للماء، حيث كانوا يدفنونها في أعماق الصحراء على طول الطريق إلى مصر، ويستخرجونها في طريق العودة. واشتهرت قبيلة المديناب بالنزاهة والصدق في التجارة، لكنها اندثرت تماماً خلال حروب المهدية، حاملة معها أسرار قوافلها المهيبة.
وعلى ذكر القوافل، فإن الإبل التي تُشترى عادةً من قبائل وأسواق مختلفة، تُجمع في قوافل يتزايد عددها تدريجياً، ويكون لكل مجموعة منها وَسمه الممَيِّز الذي يشير إلى هوية المالك. وفي حالة نفوق إحدى الجِمال في طريقه إلى مصر، تُقطع هذه العلامة مع قطعة الجلد التي كانت عليه، وتُعاد إلى صاحبه كدليل. فالرحلة عبر الصحراء شاقة على الإبل وراكبيها على حدٍّ سواء، لدرجة لا يَضمن معها كل من يخوض تلك الرحلة الظفر بسلامة الوصول وبلوغ محطتها الأخيرة. علماً بأن الفريق المرافق للقافلة يتكون من رجال متمرسين، برفقة مرشد خبير بالصحراء ومخاطرها، يعرف مواقع الآبار، ويحيط بكيفية تجنب الثعابين والعقارب والرمال المتحركة.
وفي سياق تنظيم تفويج تلك الرحلات، تسافر القوافل عادة في مجموعات تصل أحياناً إلى مئة جمل في المرة الواحدة، بفارق يومين أو ثلاثة بين كل دفعة وأخرى، وذلك لمحدودية آبار الصحراء، وعدم قدرتها على استيعاب عدد كبير من الإبل دفعة واحدة. وعند دخول القوافل إلى مصر عبر أسوان، تُستقبل في المراكز البيطرية في دراو، حيث يتم فحص الجمال ووضع علامات تعريف عليها، ومن ثم تحميلها على قطارات مفتوحة الأسقف لنقلها إلى الأسواق. وخلال الرحلة إلى مصر، يتزود المسافرون بالأدوية التقليدية والغربية لهم وللحيوانات، والمؤن الغذائية طويلة الصلاحية؛ غير القابلة للتلف، بالإضافة لأعواد الثقاب، وشفرات الحلاقة والإبر، ودون أن ننسى الشاي والسكر. كما يتسلحون بالبنادق لحماية أنفسهم من اللصوص المتربصين خلف الكثبان. أما المهربون الذين يسلكون الطرق الخلفية، فيحملون البنادق معهم ويُدخلونها مصر، حيث يصعب الحصول على تراخيص الأسلحة، وبالمقابل، يهرِّبون الذخيرة إلى السودان حيث يقتصر شراؤها على المتاجر المُرَخَّصة. وبالمقابل، تجلب القوافل التي تسافر بطريقة قانونية إلى السودان معها الملابس، والكولونيا المصرية، والصابون المُعطَّر، ومضخات ومصافي المياه، بالإضافة للعسل الأسود والسكر.

بوابة إفريقيا إلى الشرق والغرب
وعلاوة لما ذُكر آنفاً، فإن قوافل الإبل تَنقل أيضاً البشر والماشية والبضائع من مختلف دول إفريقيا، التي لا تملك منفذاً بحرياً، عبر السودان إلى البحر الأحمر، حيث كان ميناء سواكن التاريخي، الذي يعود إلى القرن العاشر، يُمثِّل البوابة الرئيسية بين إفريقيا والشرق، خاصة للحجاج المسلمين المتجهين إلى مكة، وللتجار من كلا ضفتي البحر الأحمر، وامتدَّ ذلك لإفريقيا وأوروبا بعد افتتاح قناة السويس. وحتى تاريخ استبداله بميناء بورتسودان في عشرينيات القرن الماضي، كان ميناء الجزيرة يستقبل ويرسل مئات قوافل الإبل سنوياً، حيث كانت الجِمال تصل وتغادر الميناء عبر طرق مختلفة: من الجنوب قادمة من إثيوبيا، ومن الشمال متجهة إلى مصر، وكذلك من الشمال الشرقي باتجاه بربر. وهي مُحمَّلة بجميع أنواع البضائع بحسب مصدرها، وهو تنوعٌ زاخر يَعكِس تنوّع السودان وشعبه: ومن ذلك بذور السمسم وزيتها، والذرة الرفيعة، الصمغ العربي، القطن، العسل، الزبدة، القهوة، التبغ والمطاط، بالإضافة إلى قرون وحيد القرن، والأبنوس، ريش النعام، الذهب، المسك، السلاحف والأصداف، اللؤلؤ الطبيعي والأسماك، وبالطبع إبل السباقات، والأغنام، والأبقار، والعبيد.
وفي سواكن، كان قصر الشيناوي الأسطوري يُوفِّر بدوره مأوىً لقوافل الإبل، بمئات الغرف التي يحويها الطابق العلوي، واسطبلات الإبل في الطابق الأرضي، إضافةً للفناء الضخم الذي كان يتسع للقيام بتحميل وتفريغ حمولة مئة جمل في الوقت ذاته.

ومن الأحداث الرهيبة في ذلك الزمان، أن الحكام الأتراك المكروهين في سواكن -والذين يشرفون على التجارة عبر قوافل الجمال- كانوا يضطلعون كذلك بجمع الضرائب وإرسالها شمالاً، مما جعل القوافل التي تنقل هذه الضرائب إلى السلطات المصرية تتعرَّض باستمرار لهجمات من لصوص معروفين، يمتطون الجمال وينحدرون من قبائل البدو الرُحَّل في الشمال. وفي خضم هذه الأحداث، لم تُبْدِ الحكومة أدنى قدرٍ من الرحمة تجاه من يتجرَّأ على مهاجمة هذه القوافل، وخاصة التي تسلك طريق العبابدة، حيث كان من يُلقى القبض عليهم يُعاقبون بأبشع الطرق؛ مثل حزّ الرأس أو الحرق حتى الموت، فيكونوا بذلك عبرة للآخرين.
قوافل الجمال في رواية: فم محشوّ بالملح
ويفضي بنا ذلك إلى روايتي "فم محشو بالملح"، حيث يسافر شاب من إحدى قرى شمال السودان مع قوافل الجمال إلى مصر على طريق العبابدة، وهو نفس الطريق الذي سلكه أقاربي من قبيلة القراريش حتى تم تعبيد الطريق الحديث لاحقاً، وهي الرحلة التي دُعي والدي للانضمام إليها، لكن التزامات العمل حينها، حالت دون تلبية هذه الدعوة الفارقة. وفيما لا تزال تجارة الإبل مزدهرة، إلا أن تقاليد جديدة سادت بحكم الزمن. إذ لم يعد المسافرون يقطعون تلك الرحلة التي تستغرق أياماً عبر الصحراء، بل أصبحت الإبل تُحمَّل على الشاحنات، وتُنقَل على طريق الأسفلت الجديد إلى مصر عبر معبر أرقين، حيث لا تزيد مدة الرحلة من دنقلا إلى سوق دراو عن الثماني ساعات. وتصل الإبل مع رعاتها وقد كَسَت ملامحهم طبقة من الغبار، دون أن تفقد الإبل مهابتها وجَمَالها. وما زالت الإبل تُصدَّر بالآلاف، ليس فقط للحومها ومنتجاتها، بل أيضاً لمحافل سباقات الهجن ومهرجانات جَمال الإبل.
وهكذا، تسلَّلت قافلة الجمال إلى روايتي هوناً على هيئة شذرات متفرقة. فتجارة الإبل، رغم كل مجدها ومواردها المالية الضخمة، ظلَّت غير سائدة في كل أرجاء السودان. وحتى في الولاية الشمالية، نجد أن هناك مناطق وقبائل معينة ما زالت متمسكة بهذه التقاليد، وحادبة على تربية الإبل والاتجار بها. فالإبل ليست كائنات سهلة الترويض أو الإخضاع للسيطرة، بل إن بعض سلالاتها معروفة بالشراسة. وثمة قصص كثيرة عما يخامر ذهن الإبل بشأن البشر الذين تعتبرهم كائنات غير مرغوب فيها. ودائماً ما تحضرني في هذا الخصوص قصة رُويَت لي عن راعٍ اعتدى على جمله بالضرب والإهانة، وخلال ليلة قضوها في الصحراء، انتظر الجمل -كما قيل- حتى استغرق الجميع في النوم، ثم تسلَّل بهدوء وأناخ بكلكله على الرجل. ولعل المُربك في هذا الأمر أنني، وبعد كل ما تعلّمته عن الإبل، ما زلت عاجزة عن تحديد إن كانت هذه القصة حقيقة أم مُختَلَقة.
تمت صياغة هذا المقال بالاستفادة من خبرة الأستاذ الدكتور عبد الرحيم محمد صالح، أستاذ الأنثروبولوجيا واللسانيات بالجامعة الأمريكية، وصاحب المساهمات الأكاديمية الرصينة والجزيلة.
تلقّى والدي، قبل عدة أعوام، دعوة من بعض أقاربنا لمشاركتهم رحلة استثنائية تنطلق من السودان إلى مصر. وتكمن فَرَادة هذه الدعوة في أن الرحلة المزمعة كانت رحلة برية تقطع الصحراء القاحلة، على ظهور الجِمال، وعبر درب الأربعين العريق الذي طَرَقَته القوافل لقرون من الزمان. وهكذا فقد لوَّحت تلك الدعوة بفرصة نادرة لمرافقة آخر قافلة جمال لقبيلتنا "القراريش" في رحلتها الملحمية، العابرة للصحراء، إلى سوق الجمال في دراو بمصر، وذلك قبل أن يُشق طريق الأسفَلت الجديد، وتُحلّ الشاحنات محلّ الإبل.
والسفر بكل أشكاله طقس قديم قِدم الزمان نفسه. فلطالما ارتحل البشر: بحثاً عن الطعام، أو المأوى، أو التماساً للأمان، أو رغبة في الاستكشاف، أو لأداء شعيرة الحج. ثم يؤوبون من أسفارهم أحياناً إلى موطنهم الأول، حيث الوطن في الغالب هو المكان الذي يضعون فيه رحالهم وينعمون بالراحة. وأحياناً أخرى يكون الوطن هو ذات الغاية "البسطامية" التي ظلوا ينشدونها منذ البدء. وقد يأتي الارتحال طوعاً؛ طلباً لمراعٍ أكثر خضرة، أو صلات جديدة، أو فرص اقتصادية واعدة. أو قسرياً في أحيان أخرى؛ هرباً من العنف أو الجفاف، أو ارتهاناً للعبودية والنخاسة. وتتنوع وسائل السفر بين المشي على الأقدام، أو امتطاء ظهور الحيوانات، أو استخدام المركبات. وبغض النظر عن الوسيلة أو الدافع، يبقى خيطٌ مشترك يَربط بين جميع هذه الرحلات؛ وهو الترقّب أو الخوف من المجهول.
والسودان ليس استثناءً من هذا الحراك الدائم، فموقعه الفريد كبوابة إلى إفريقيا، ومعبر لكل من مكة ومصر، جعله، لقرون من الزمان، ملتقى طُرُقٍ حيويّ مائج بالحركة؛ حيث كانت قوافل الجمال، ولا تزال، جزءاً أصيلاً من هذا النسيج، تحمل ويُحمَل عليها إلى وجهات متعددة، على طُرقٍ منحوتةٍ في ذاكرة الأرض وإنسانها.
كما لا تقتصر فرادة الجمل -ذلك الكائن العجيب الذي أبدعه الخالق وحبَاه بما يؤهّله للعيش في هذه البيئة الصحراوية- على كونه "سفينة الصحراء"، وإن كان هذا الدور بحدّ ذاته استثنائياً ومثيراً للدهشة؛ فهو كائن يتمتّع بقدرة لا تُضاهى على التكيُّف مع الظروف القاسية من حرٍّ وجفاف، حيث يستطيع تحمل العيش بلا ماء أو طعام لثلاثة أسابيع متوالية، والتنقّل المستمر بخطوٍ ثابت وواثق، ولساعات طويلة دون كلل. بالإضافة لقدرته على حمل أضعاف ما تحمله سائر الدواب.

كما يُحظى الجمل بمكانة خاصة لتنوّع منتجاته؛ فَبالإضافة إلى أن لحمه يُعَد طعاماً شائعاً في بلدان عديدة، خاصة في مصر، فإن جِلده يُصدَّر إلى أوروبا لتُصنع منه أجود أنواع الجلود، فيما تُستَخدم عظامه في تكرير السكر. ولمنتجاته الأخرى كذلك سمعة تكاد تكون أسطورية، ولا سيما حليبُه، بل وحتى بوله الذي تُنسب إليه خصائص علاجية مذهلة. وقد شهدت بنفسي هذه الظاهرة الغريبة إبّان فترة عملي كطبيبة شابة في الخليج.
أذكر حينها أن طفلة بدوية شُخِّصت بسرطان الدم (اللوكيميا) في المستشفى الذي كنتُ أعمل فيه، لكن أسرتها رفضت أن تتلقَّى أي نوع من العلاج الطبي. ولم يكونوا يحضرونها إلى المستشفى إلا في الحالات الطارئة التي تصاب فيها بالحُمّى أو الإسهال. وقد تم تأكيد التشخيص أكثر من مرة عبر أخذ عينة من نخاع العظم، وهي عملية مؤلمة يُسحب فيها جزء من نخاع عظم الورك لمعرفة نوع خلايا الدم التي يُنتجها الجسم وكميتها. وفي إحدى الزيارات اللاحقة، وبعد تكرار الفحص، فوجئنا بأن نخاع العظم خالٍ من أي خلايا بيضاء سرطانية. وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً، إذ إن اللوكيميا لا تختفي فجأة. وعندها أَخبَرَنا أهلها بأنهم كانوا يُعطونها كل صباح زجاجة صغيرة من بول الإبل.
وللعجب، فقد أظهرت الفحوصات المتكرِّرة، خلال زيارات المتابعة، غياب أي أثر لخلايا الدم السرطانية. وبدا أن لبول الإبل تأثيراً شبيهاً بتأثير الكورتيكوستيرويدات، التي تثبّط إنتاج تلك الخلايا أو ربما تقضي عليها. غير أن هذا الأثر لم يَدُم طويلاً، إذ سرعان ما عاود المرض هجمته الشرسة، لتدخل الطفلة في نوبة حادة، وترحل عن الدنيا –مأسوفاً على طفولتها الغضّة– بعد شهرين فقط من عيد ميلادها الأول.
طُرُق الإبل بين السودان ومصر
لطالما شكَّلت الطرق الصحراوية شرياناً اقتصادياً حيوياً بين مصر والسودان، وعبره إلى سائر أرجاء إفريقيا. ورغم كل ما يتمتع به نهر النيل من عظمة، إلا أن دوره في التجارة بين البلدين اللذين يَصِلهما بوشيجتِه ظلَّ محدوداً، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى وجود ستة شلالات تتسبب في إعاقة الحركة التجارية. وبالمقابل، سهّل النيل مرور الغزاة على مر العصور، حاملاً السفن البخارية التي تعج بالمُبَشِّرين والجنود، ولعل أشهرها الحملة الفاشلة التي أُرسلت لإنقاذ تشارلز غوردون. بينما مثَّلت الطرق الصحراوية، ولا تزال، شرياناً لا غنى عنه، تنتقل عبره البضائع والعملات وكذلك الثقافة والعلائق بين السودان ومصر، ويتجلى من خلالها الأثر الثقافي للسودان على مصر.
وتتبع هذه الطرق مسارات المياه، العابرة للصحراء على امتداد سلاسل من الآبار المُوزعة في اتجاهات مختلفة. أما أهم ثلاثة طرق اعتمدتها قوافل الإبل على مر القرون بين السودان ومصر فهي على النحو التالي: طريق العبابدة، وطريق المحيلة للقوافل القادمة من الشرق، وطريق الأربعين للقادمين من الغرب. وأكبر هذه الطرق هو طريق العبابدة، نسبة إلى قبيلة العبابدة، ويعود تاريخه إلى عهد دولة الفونج. يبدأ هذا الطريق من قصر حسين خليفة باشا في الدامر، فيما يُعرف اليوم بولاية نهر النيل، مروراً بكروسكو ووصولاً إلى أسوان ثم سوق دراو في مصر. وقد لعب هذا الطريق دوراً بالغ الأهمية في المنطقة، وكذلك للحكومات المختلفة في السودان.
ونأتي إلى الطريق الثاني وهو طريق المحيلة، الممتد من الكاسينجر في ولاية الشمالية إلى دلقو، ويضم عبر امتداده ثمانية آبار. أما الطريق الثالث فهو طريق الأربعين، المعروف بدرب الأربعين، الذي تسلكه القوافل القادمة على الأغلب من جهة قبائل الكَبَابِيش في دارفور غرب السودان، وتستغرق الرحلة عبره نحو أربعين يوماً من نقطة الانطلاق وحتى الوصول. ومع ذلك، يُعتقد أن اسم "درب الأربعين" لا يقتصر على الإشارة إلى تلك المدة الزمنية فحسب، بل يشير أيضاً للرحلات العجائبية التي قطعها الدراويش راجلين على هذا الطريق، وللمعجزات التي تنسب لهم فيما يتعلق باجتيازهم لمداه الشاسع سيراً على الأقدام.
تجدر الإشارة أنه وحتى عام ١٩٨٥، كان هناك طريق رابع للقوافل: يُعرف بطريق المديناب، الذي يُنسب لقبيلة المديناب، والتي كانت تسافر في قوافل ضخمة تصل إلى ألفي جمل إلى مصر. وكان هذا الطريق فريداً من نوعه، إذ لم يكن فيه آبار مياه على الإطلاق، وكان من المستحيل عبوره لو لا استخدام القبيلة لأكياس جلدية خاصة مُقاومة للماء، حيث كانوا يدفنونها في أعماق الصحراء على طول الطريق إلى مصر، ويستخرجونها في طريق العودة. واشتهرت قبيلة المديناب بالنزاهة والصدق في التجارة، لكنها اندثرت تماماً خلال حروب المهدية، حاملة معها أسرار قوافلها المهيبة.
وعلى ذكر القوافل، فإن الإبل التي تُشترى عادةً من قبائل وأسواق مختلفة، تُجمع في قوافل يتزايد عددها تدريجياً، ويكون لكل مجموعة منها وَسمه الممَيِّز الذي يشير إلى هوية المالك. وفي حالة نفوق إحدى الجِمال في طريقه إلى مصر، تُقطع هذه العلامة مع قطعة الجلد التي كانت عليه، وتُعاد إلى صاحبه كدليل. فالرحلة عبر الصحراء شاقة على الإبل وراكبيها على حدٍّ سواء، لدرجة لا يَضمن معها كل من يخوض تلك الرحلة الظفر بسلامة الوصول وبلوغ محطتها الأخيرة. علماً بأن الفريق المرافق للقافلة يتكون من رجال متمرسين، برفقة مرشد خبير بالصحراء ومخاطرها، يعرف مواقع الآبار، ويحيط بكيفية تجنب الثعابين والعقارب والرمال المتحركة.
وفي سياق تنظيم تفويج تلك الرحلات، تسافر القوافل عادة في مجموعات تصل أحياناً إلى مئة جمل في المرة الواحدة، بفارق يومين أو ثلاثة بين كل دفعة وأخرى، وذلك لمحدودية آبار الصحراء، وعدم قدرتها على استيعاب عدد كبير من الإبل دفعة واحدة. وعند دخول القوافل إلى مصر عبر أسوان، تُستقبل في المراكز البيطرية في دراو، حيث يتم فحص الجمال ووضع علامات تعريف عليها، ومن ثم تحميلها على قطارات مفتوحة الأسقف لنقلها إلى الأسواق. وخلال الرحلة إلى مصر، يتزود المسافرون بالأدوية التقليدية والغربية لهم وللحيوانات، والمؤن الغذائية طويلة الصلاحية؛ غير القابلة للتلف، بالإضافة لأعواد الثقاب، وشفرات الحلاقة والإبر، ودون أن ننسى الشاي والسكر. كما يتسلحون بالبنادق لحماية أنفسهم من اللصوص المتربصين خلف الكثبان. أما المهربون الذين يسلكون الطرق الخلفية، فيحملون البنادق معهم ويُدخلونها مصر، حيث يصعب الحصول على تراخيص الأسلحة، وبالمقابل، يهرِّبون الذخيرة إلى السودان حيث يقتصر شراؤها على المتاجر المُرَخَّصة. وبالمقابل، تجلب القوافل التي تسافر بطريقة قانونية إلى السودان معها الملابس، والكولونيا المصرية، والصابون المُعطَّر، ومضخات ومصافي المياه، بالإضافة للعسل الأسود والسكر.

بوابة إفريقيا إلى الشرق والغرب
وعلاوة لما ذُكر آنفاً، فإن قوافل الإبل تَنقل أيضاً البشر والماشية والبضائع من مختلف دول إفريقيا، التي لا تملك منفذاً بحرياً، عبر السودان إلى البحر الأحمر، حيث كان ميناء سواكن التاريخي، الذي يعود إلى القرن العاشر، يُمثِّل البوابة الرئيسية بين إفريقيا والشرق، خاصة للحجاج المسلمين المتجهين إلى مكة، وللتجار من كلا ضفتي البحر الأحمر، وامتدَّ ذلك لإفريقيا وأوروبا بعد افتتاح قناة السويس. وحتى تاريخ استبداله بميناء بورتسودان في عشرينيات القرن الماضي، كان ميناء الجزيرة يستقبل ويرسل مئات قوافل الإبل سنوياً، حيث كانت الجِمال تصل وتغادر الميناء عبر طرق مختلفة: من الجنوب قادمة من إثيوبيا، ومن الشمال متجهة إلى مصر، وكذلك من الشمال الشرقي باتجاه بربر. وهي مُحمَّلة بجميع أنواع البضائع بحسب مصدرها، وهو تنوعٌ زاخر يَعكِس تنوّع السودان وشعبه: ومن ذلك بذور السمسم وزيتها، والذرة الرفيعة، الصمغ العربي، القطن، العسل، الزبدة، القهوة، التبغ والمطاط، بالإضافة إلى قرون وحيد القرن، والأبنوس، ريش النعام، الذهب، المسك، السلاحف والأصداف، اللؤلؤ الطبيعي والأسماك، وبالطبع إبل السباقات، والأغنام، والأبقار، والعبيد.
وفي سواكن، كان قصر الشيناوي الأسطوري يُوفِّر بدوره مأوىً لقوافل الإبل، بمئات الغرف التي يحويها الطابق العلوي، واسطبلات الإبل في الطابق الأرضي، إضافةً للفناء الضخم الذي كان يتسع للقيام بتحميل وتفريغ حمولة مئة جمل في الوقت ذاته.

ومن الأحداث الرهيبة في ذلك الزمان، أن الحكام الأتراك المكروهين في سواكن -والذين يشرفون على التجارة عبر قوافل الجمال- كانوا يضطلعون كذلك بجمع الضرائب وإرسالها شمالاً، مما جعل القوافل التي تنقل هذه الضرائب إلى السلطات المصرية تتعرَّض باستمرار لهجمات من لصوص معروفين، يمتطون الجمال وينحدرون من قبائل البدو الرُحَّل في الشمال. وفي خضم هذه الأحداث، لم تُبْدِ الحكومة أدنى قدرٍ من الرحمة تجاه من يتجرَّأ على مهاجمة هذه القوافل، وخاصة التي تسلك طريق العبابدة، حيث كان من يُلقى القبض عليهم يُعاقبون بأبشع الطرق؛ مثل حزّ الرأس أو الحرق حتى الموت، فيكونوا بذلك عبرة للآخرين.
قوافل الجمال في رواية: فم محشوّ بالملح
ويفضي بنا ذلك إلى روايتي "فم محشو بالملح"، حيث يسافر شاب من إحدى قرى شمال السودان مع قوافل الجمال إلى مصر على طريق العبابدة، وهو نفس الطريق الذي سلكه أقاربي من قبيلة القراريش حتى تم تعبيد الطريق الحديث لاحقاً، وهي الرحلة التي دُعي والدي للانضمام إليها، لكن التزامات العمل حينها، حالت دون تلبية هذه الدعوة الفارقة. وفيما لا تزال تجارة الإبل مزدهرة، إلا أن تقاليد جديدة سادت بحكم الزمن. إذ لم يعد المسافرون يقطعون تلك الرحلة التي تستغرق أياماً عبر الصحراء، بل أصبحت الإبل تُحمَّل على الشاحنات، وتُنقَل على طريق الأسفلت الجديد إلى مصر عبر معبر أرقين، حيث لا تزيد مدة الرحلة من دنقلا إلى سوق دراو عن الثماني ساعات. وتصل الإبل مع رعاتها وقد كَسَت ملامحهم طبقة من الغبار، دون أن تفقد الإبل مهابتها وجَمَالها. وما زالت الإبل تُصدَّر بالآلاف، ليس فقط للحومها ومنتجاتها، بل أيضاً لمحافل سباقات الهجن ومهرجانات جَمال الإبل.
وهكذا، تسلَّلت قافلة الجمال إلى روايتي هوناً على هيئة شذرات متفرقة. فتجارة الإبل، رغم كل مجدها ومواردها المالية الضخمة، ظلَّت غير سائدة في كل أرجاء السودان. وحتى في الولاية الشمالية، نجد أن هناك مناطق وقبائل معينة ما زالت متمسكة بهذه التقاليد، وحادبة على تربية الإبل والاتجار بها. فالإبل ليست كائنات سهلة الترويض أو الإخضاع للسيطرة، بل إن بعض سلالاتها معروفة بالشراسة. وثمة قصص كثيرة عما يخامر ذهن الإبل بشأن البشر الذين تعتبرهم كائنات غير مرغوب فيها. ودائماً ما تحضرني في هذا الخصوص قصة رُويَت لي عن راعٍ اعتدى على جمله بالضرب والإهانة، وخلال ليلة قضوها في الصحراء، انتظر الجمل -كما قيل- حتى استغرق الجميع في النوم، ثم تسلَّل بهدوء وأناخ بكلكله على الرجل. ولعل المُربك في هذا الأمر أنني، وبعد كل ما تعلّمته عن الإبل، ما زلت عاجزة عن تحديد إن كانت هذه القصة حقيقة أم مُختَلَقة.
تمت صياغة هذا المقال بالاستفادة من خبرة الأستاذ الدكتور عبد الرحيم محمد صالح، أستاذ الأنثروبولوجيا واللسانيات بالجامعة الأمريكية، وصاحب المساهمات الأكاديمية الرصينة والجزيلة.
.jpeg)





.jpeg)

