أجسادٌ مُزَيَّنة وأرواحٌ مَحرُوسة

لم تكن الولادة أو الزواج في السودان القديم تجاربَ فردية، بل كانت تُختَبر جماعيّاً عبر طقوس أَضفَت عليها طابعاً مقدساً، وجعلتها تجارب تشكَّلت عبرها الجماعة ومعيشتها، وعلى رأس هذه الطقوس كان "الجرتق".

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
12/11/25
المؤلف:
سبأ هلالي
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
المترجم:
نبيل محمد نور طه
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

أجسادٌ مُزَيَّنة وأرواحٌ مَحرُوسة: قراءة في الجَرتق السوداني كمَعرِفة مُجَسَّدَة

لم تكن الولادة أو الزواج في السودان القديم تجاربَ فردية، بل كانت تُختَبر جماعيّاً عبر طقوس أَضفَت عليها طابعاً مقدساً، وجعلتها تجارب تشكَّلت عبرها الجماعة ومعيشتها، وعلى رأس هذه الطقوس كان "الجرتق". وتعليل الكلمة غير مضبوط، يقول عبد الله الطيب لعلها من الكلمة العربية "دردق" بمعنى صغار الإنس والحيوان، بينما يشير عون الشريف إلى أصلها من "جِرت"، وهي الزينة التي تُلبَس في الطقس. أيَّاً كان أصل الكلمة، فقد تميّز الجرتق بموقعه الرمزي كطقس للعبور من حالة اجتماعية إلى أخرى، وكمُنت أهميته في كونه مساحة أُدير فيها الخير والسوء، الحماية والانكشاف، الهوية والانتماء. يُعد الجرتق بما حواه من عناصر مُميَّزة، كالبخور والزينة والغناء والدعاء الجماعي، طقساً احتفاليَّاً وحِمَائيَّاً في آنٍ واحد، يحقق الإدماج الاجتماعي ويُؤطر تحولات الهوية الجندرية. بأدائه الجسديّ ومنطِقه الروحيّ، يَعكِس الجرتق أنساقاً معرفية محلية ترتبط بالصحة والخصوبة واستمرار الجماعة.  لم يكن الطقس مجرد ممارسة تجميلية أو شكلية، بل بنية رمزية ومعرفية تُشكّل من خلالها النساء أجسادهنّ وحيواتهنّ ضمن العلاقات الاجتماعية. وبالرغم من أن الجرتق ظل حاضراً في بعض المجتمعات، إلا أن تحوّلات الحداثة ومفاهيمها الطبية عن الجسد والمرض أدَّت إلى تآكل وظيفته الاجتماعية. هذه المقالة هي محاولة لاستعادة الجرتق كممارسة معرفية مُجسَّدة وموقع لمقاومة نُظم الضبط الاستعمارية.

الجرتق كطقس عبور:

ارتَبط الجرتق بلحظات الانتقال في الحالة الاجتماعية، مثل الختان، الزواج، الحمل، والنفاس. وهو طقس نسويّ بامتياز، تديره النساء وتُحاط فيه المرأة بأخريات يشاركنها الغناء والتزيين والتبخير، في أُختِيَّة لم نبلغها اليوم بما استَعِرنَاهُ من السياسة الأمريكية. نُظِر إلى هذه الطقوس على أنها حماية من الحسد و"العين الحارة"، لكنّها أيضاً عَملت على إعادة تشكيل الهوية الجندرية والاجتماعية. وعلى عكس ارتباط الجرتق اليوم بالزواج، وأحياناً بالختان، فقد كان قبلاً يُمارس كذلك في الشهر السابع من الحمل وبعد الإنجاب.

يقام طقس الختان/الطهور في الفترة بين الميلاد والبلوغ، ويُعامل فيه الصبي المُطهَّر أو الفتاة المطهَّرة بتكريمٍ كبير؛ ترتدي الفتاة ملابس وحليّ الجرتق، بعيون مُحَاطَة بالكحل، وقلائد مُحدَّدة بخرز من حَجَر الدم -والذي يُعتَقد أنه يوقف النزيف ويُسَرِّع الشفاء- بينما يُربط شريط حريريّ أحمر على المعصم الأيمن، وتتزيَّن الراحتان والقدمان بالحناء، ويُزَيَّن الصبيّ بالمثل. يُختَن الأولاد والبنات على عنقريب (السرير السوداني التقليدي) مغطّى بحصير أحمر، ويستلقون عليه لمدة أسبوع تقريباً. أما جرتق الزواج، فقد كان حدثاً محوريّاً يفصل بين حياة العزوبة والدخول إلى عالم الزوجية. وجرتق الزواج مستفيض ومُحكَم في تفاصيله. تجلس العروس والعريس خلال المراسم على عنقريب مُزيَّن بسعف النخيل، وتلعب الأغاني دوراً كبيراً في تشكيل هذه اللحظة، حيث تتغنَّى النساء بجمال العروس، ونسبها، وصفاتها، وأحلامها في الحياة الجديدة. في ذات الوقت، يُحاط جسدها بالبخور ويُرَش بالماء والعطر، ما يَخلق مجالًا بينيّاً بين المادة والروح، ويوفِّر حماية من الحسد. هذه اللحظة لا تخص العروس وحدها، بل هي لحظة جماعية تُظهر قوم النساء كمجتمع متضامن ومتشارك في إنتاج المعنى والحماية.

في سياق الحمل والنفاس، تؤدي طقوس الجرتق دوراً في دعم المرأة معنويّاً وجسديّاً، وتحفيز ارتباطها بجسدها ومَوقَعَتِهَا في مجتمعها. تجلس الحامل على عنقريب يُوضَع عادةً في منتصف الحوش مواجهاً الشرق، ويُتوَّج شعرها المُضفَّر حديثاً بمسحوق خشب الصندل ممزوجاً بالعطر، تُسوَّد عيناها وحاجباها بالكحل، ويُفرَك وجهها وبشرتها بالدلكة. ترتدي قلادةً من قرص فضي يُسمى "فرج الله"، وتُوضع تماثيل صغيرة ذات أشكال مُنفرة بالقرب من سريرها لدرء الحسد، مع أن بعض الجماعات، مثل الجعليين والرباطاب، لم تمارس هذا الجانب تحديداً، إذ اختلفت تفاصيل ومراسم الجرتق من مجتمع لآخر. على سبيل المثال، في مناطق سنار وسنجة، كان هناك طقس "أكل العصيدة"، حيث كانت النساء يُمَسِّحن بطن الحامل المكشوف بحفنات من عصيدة الدخن والسمن، يُعتقد أنهما يعزِّزان الخصوبة، لها وللحاضرات. وتبقى المرأة في هذه الحالة المزينة حبيسة منزلها لمدة أسبوع تقريباً، تلتزم خلالها بالمحرّمات التي يُعتقد تسبيبها المشاهرة (جميع ما يصيب الحمل من أمراض). بعد الولادة، تخضع النَفَسَا (الأم الجديدة) وطفلها لطقوس جرتق النُفاس مرةً أخرى. وتؤكّد هذه الطقوس المحكمة على الجهد الجماعي الذي يبذله المجتمع لضمان سلامة الأم وخصوبتها، وكأنها شرنقة واقية منسوجة حول الأم الحامل، لتحضيرها وطفلها لوصولٍ مبارك إلى العالم.

نرى هنا كيف أن الجرتق طقس للعبور، إذ يُجسِّد عملية انتقال اجتماعي وثقافي مُنَظَّمة من مرحلة إلى أخرى، وما يُرافق ذلك من تحوّل في الهوية والمكانة داخل الجماعة. تُعزل الأنثى فيه مؤقتاً عن الحياة اليومية وأدوارها السابقة، ويُخصَّص مكان وزمان محدَّدَين للجرتق، وتُرتدى لباس وزينة مغايرة لما يُرتدى في الحياة اليومية. تحمل طقوسه طابعاً رمزياً مكثفاً: الألوان مثل الأحمر والذهبي، الحلي، العطور والبخور، وحركات الجسد المرافقة للأغاني والرقص؛ تبدو أدوات تعبيريَّة تؤكد على التحوّل الجاري، وتربط الفرد بمنظومة قيم وجماليات متوارثة. وينتهي الطقس بإعادة إدماج تعود فيها الأنثى إلى الجماعة وهي تحمل مكانة جديدة، ليُعترف بها رسمياً كعضوة تتمتع بحقوق وواجبات مختلفة. تنتقل روح النساء عبر أجساد مختلفة، من جسد الطفلة إلى جسد الأنثى مكتمل العضوية، ثم إلى الجسد المتزوج المجنسن، ثم الجسد الحامل للحياة، إلى جسد الأم. وبهذا، فإن الجرتق ليس مجرد احتفال جمالي أو إعلان، بل هو فعل اجتماعي-ثقافي يُعيد إنتاج النظام الرمزي والاجتماعي وتعريف موقع الشخص داخل الجماعة، وتحافظ على استمرارية الهوية الجمعية بتأكيده الانتماء إلى سلسلة نسب، وتقاليد ممتدة عبر الأجيال، ودمجه الخبرة الفردية في السردية الجماعية.

مَعرفة مُجَسَّدة:

نجد هنا أن الجرتق تجسيد لأنماط من المعرفة المتوارثة شفهياً عبر الأجيال، خصوصًا من الحبوبات (الجدّات)، اللائي يُرَتِلنَ الدعوات والأهازيج ويراقبن علامات الجسد بنظرة خبيرة لا تعتمد على أدوات حديثة، بل على معرفة حية وممارَسة. هذا النوع من المعرفة لا يمكن فصله عن السياق الثقافي والاجتماعي، وهو ما يجعل الجرتق مَدخلًا لفهم كيفية إنتاج نساء السودان معرفة بديلة، نسويّة ومُجتمعية. وهي ليست معرفة طبية بالمعنى الحديث، ولا هي فقط علاجية للجسد، بل اجتماعية وروحانية وجمالية، وتعبِّر عن فهم جماعي متوارث للعافية والخصوبة والحماية.

يتكشّف لنا هنا نظام اجتماعي ثقافي مسؤول عن التنظيم العام للجنسانية والاستمرار وتكوين الأسرة، والذي شكَّلته وأدارته شخصيات اجتماعية، وفي الأغلب نسائية. على سبيل المثال، كانت الحبوبات مؤسسات ثقافية وحافظات للتراث، لعبن دوراً حيّاً في طقوس الجرتق بأدوار لا يؤديها سواهن. كما كانت الدايات حكيمات الختان والحمل والنفاس، وحافظات الجسد الأنثوي، وعملن في اتصال وثيق بوظائفه الإنجابية. وهنا تظهر لنا شخصية أخرى، شيخة الزار، التي أدارت جلساته تعبير النساء (والرجال) عن رغبات مُحرَّمة ليصبح المنفذ الاجتماعي لها، وقدَّمت طقوساً علاجية تناولت قضايا الخصوبة، مثل الختان والزواج والطلاق والحمل والولادة والطفولة والرغبة الجنسية، بالإضافة إلى السلوك العام والتنشئة الاجتماعية. كانت طقوس الزار هي النظير الروحي للختان الجسدي، إذ هي كذلك جدَّدت سلامة وقوة جسد الأنثى وأَشْفَت روحها من عيوبِه. وليس من قبيل الصدفة أن العديد من شيخات الزار أو مؤدّياته كنَّ دايات أو عاملات في المجال الطبي. هذا إضافة إلى المشاطات (كان تمشيط الشعر جزءاً أساسياً من طقوس الجرتق)، ودقَّاقَات الريحة (صانعات العطور) وغيرهنَّ من النساء اللائي شغلن أدواراً اجتماعية كوَّنت شبكة مُحكمة لجسد معرفيّ نسويّ جماعيّ مُتَكَامِل، مثَّل الجرتق فيه تجسيداً واتحاداً بين عناصره وشخصيّاته المختلفة.

تفكيك الطقس تحت الاستعمار:

مع قدوم الاستعمار البريطاني، تم تفكيك الأنظمة العلاجية المعرفية التقليدية لصالح نظام طبي قومي بيروقراطي حديث، نُزع فيه الجسد من بعده الجماعي والطقسي. فعلى سبيل المثال، تم حصر طقوس مثل الجرتق في نطاق "التراث" بدلًا من كونها ممارسات حيّة. وقد اعتُبرت ممارسات الجرتق والزار والختان وغيرها مظاهر للتخلف والجهل من وجهة نظر المستعمرين وأطباء الصحة العامة. جرى إخضاع الجسد الأنثوي لخطاب السلطة الطبية، وتحويله إلى موضوع للرصد والتدخّل والتطبيع ضمن منطق الدولة الاستعمارية التي رَبطت الصحة بالنظام والسيطرة.

أحدث النهج العقلاني للإنجاب الذي فرضته السلطات الاستعمارية تحوّلاً كبيراً في نظرة النساء السودانيات إلى أجسادهن. قبل هذا التدخل، أُعطيت أهمية ثقافية للخصوبة والرحم كمصدر للحياة، حيث كانت الحياة الجنسية للمرأة وقدرتها الإنجابية وجسدها في تشابك عميق مع هويتها ومجتمعها. لم تكن الخصوبة مجرد وظيفة بيولوجية، بل جزءاً من هوية الأنوثة تحكمه رموز الختان والزواج والولادة، وتُشفى أعلاله بعلاجٍ روحيّ يَسمح للمرأة بتجلٍّ ذاتيّ (الزار) يرفض فيه المجتمع أن يعيبها، بل يعيب أسباب خارج نطاق روحها أو جسدها (كالجن). هنا تَنَاقَضَ الزار مع الفردية الغربية، التي تُضفي خصائص محددة ومُعَرَّفة على الجسد والعقل تَفصِل بين كلٍّ منهما. وكان هذا المفهوم "العلائقي" للزول (الشخص) السوداني، الذي اعتبر الأخلاق والقيم والأعلال والصراع الذاتي مسؤولية جماعية وليست فردية؛ يفوق ما تستطيع الحساسيات الغربية تحمله. وبينما يتعامل الجرتق مع الجسد كموقع للمعنى والارتباط والذاكرة، تُعبِّر فيه الزينة والأنغام عن مفردات علاجية تربطه مع الروح، قدَّمت السلطات الاستعماريَّة الجسد كآلة وظيفية مُفرَدة، تحكمها عمليات فسيولوجية يُمكن فهمها وإدارتها علميّاً، في انفصال تام عن الذوات الداخلية أو الانتماء الجماعي.

ضمن هذا السياق، لم يكن تفكيك الثقافة والممارسات الإنجابية، ومن بينها الجرتق، مجرد إلغاء طقس، بل كان تفكيكاً لمنظومة رمزية ومعرفية كاملة، وإعادة تشكيل للعلاقات الاجتماعية والإنتاجية. مثالاً، حَلَّت القابلة النظامية محل الدَّاية، ونُظر إلى الدايات كمصدر تهديد للصحة العامّة، وتمت ملاحقتهنّ قانونيَّاً، وفُرِضَت عليهنّ رقابة شديدة. صوَّر نظام القبالة الحديث الإنجاب كوظائف طبية حيوية تتطلب إدارة خبراء مهنيين، وليس كتكوينات أنثوية مُدمجة في المعاني الثقافية. فنُصحت النساء بتحديد أوقات ومدة الرضاعة وتنظيمها، وبوضع الرضع إلى النوم بمفردهم. فُرِضَت هذه التدخلات في الأمومة فرديةً أوروبية على الأمهات السودانيات، اللواتي اعتُبِرَت مفاهيمهنّ عن الجسد وشَخصِه بدائية وغير عقلانية وخاطئة.

بالإضافة إلى ذلك، شملت التعاليم أموراً تتعلق بالروتين الجسدي واللباس وتنظيم النظام الغذائي، امتدَّت لتشمل تعليمات حول كيفية مضغ الطعام بشكل صحيح. وهي إجراءات مُصَمَّمَة لتشكيل جسد الأم إلى وعاء تكاثري فعَّال وظيفيَّاً. فَرَضَ هذا على النساء نوعاً من الضبط الذاتي لأجسادهنّ، وطبَّع مراقبة شمولية لجسد الأنثى، حيث أصبح كل سلوك وإيماءة وعادة خاضعة للتدقيق والتصحيح، وتم ترسيخ نوع جديد من الخصوبة والأمومة. وفي هذا الشكل من التربية الحيوية-السياسية، أُعيد ترتيب العلاقة بين الجسد والمجتمع والدولة.

الجرتق اليوم: بين الفلكلور والمقاومة الحية

رغم كل هذه التغيُّرات، لا يزال الجرتق يُمارَس في بعض المجتمعات الريفية والحضرية، وإن كان في صُور مختزلة أو مُعدَّلة. يُستخدم أحياناً كأداة للهوية الثقافية، ولتأكيد الانتماء لماضٍ مشترك. وتُستخدم عناصر الجرتق اليوم أيضاً في مناسبات اجتماعية وفنية، ما يشير إلى استمرار رمزيته وأثره في الذاكرة الجمعية. بعض النساء الشابات، خصوصاً في سياقات الشتات، يعدن تخيُّل الجرتق كأداة لتأكيد الهوية الثقافية، وإعادة الاتصال بالأصول والمعاني المحلية. هذا الشكل من الاستمرارية لا يخلو من التحديات، فالكثير من ممارسات الجرتق تخضع لإعادة تفسير ضمن سياقات حديثة، وقد تُفرّغ من مضمونها المعرفي لصالح البُعد الجمالي أو الفلكلوري. ومع ذلك، فإن مجرد بقائه كفعل اجتماعي يشير إلى قدرة الطقس على تجاوز الزمن، والبقاء كموقع للمقاومة الناعمة، واستعادة الذاكرة.

لا يمكن فهم طقس الجرتق بمعزل عن بنيته الثقافية والاجتماعية والروحية. فهو ممارسة حية أَنتَجت عبر الزمن معرفة وهوية وجمالًا. وهذا المقال ليس محاولة لاستعادة الطقس كما كان ورفض العلوم الطبية الحديثة، وهو ما سيشكل تناقضاً مع محاجّته الأساسية. فإن كان الجرتق في الماضي جزءاً أصيلاً من نظام معرفيّ متكامل عن الجسد، تشابكت فيه العلاقات الاجتماعية، فهذا يقتضي انتفاء إمكان استعادته بهذا المعنى، فحقيقة الأمر أننا اليوم في نظام عالمي مختلف. إن إعادة الاعتبار لهذا الطقس لا تعني استعادة الماضي، بل هي فعل مقاومة ضد محاولات المحو وإعادة هيكلة الحياة وفق منطق الدولة الاستعمارية. بذلك، يشكل الجرتق مدخلًا لفهم كيف قاومت النساء في السودان استلاب الجسد والمعنى، وحافظن على معارفهنّ الُمَجسَّدة في مواجهة أنماط الحداثة القسرية. من خلال إعادة تأطير الجرتق كممارسة نسوية ومجتمعية غنية بالمعرفة، تؤكد هذه المقالة على أهمية إدماج الطقوس التقليدية ضمن الدراسات المعرفية والطبية والهويّاتية، ليس بوصفها مجرد عادات وتراث يجب الحفاظ عليهما، بل كأطر بديلة لفهم الحياة والمجتمع والجسد؛ أُطُر قد لا نستطيع استعادة محتواها وقد نرفضه إجمالاً، إلا أن المسألة هنا ليست مسألة محتوى، بل مسألة شكل. مسألة التفكير والسعي نحو استعادة هوية ومعارف وعلاقات جماعية تشاركية تتحدَّى النظام الاستعماري الذي يَفْصِل عوضاً عن أن يجمع؛ يفصل الخاص عن العام، والذات عن جسدها، والشخص عن جماعته. يؤكد لنا الجرتق أهمية أن نَجمع ونُكامل تحت وطأة نظام عالمي يستمر في إثبات فشله اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

صورة الغلاف التقطت بواسطة: يوسف الشيخ

المراجع

  • عون الشريف
  • Boddy, Janice. “Barbaric Custom and Colonial Science: Teaching the Female Body in the Anglo-Egyptian Sudan.” Social Analysis (Adelaide, S.A.) 47, no. 2 (2003): 60–81.
  • “Bodies under Colonialism.” In A Companion to the Anthropology of the Body and Embodiment, edited by Frances E. Mascia-Lees, 119–36. Chichester, UK: Wiley-Blackwell, 2011.
  • Civilizing Women: British Crusades in Colonial Sudan. Princeton: Princeton University Press, 2007.
  • Wombs and Alien Spirits: Women, Men and the Zar Cult in Northern Sudan. Madison, WI: University of Wisconsin Press, 1989.
  • El Tayib, Abdulla. “Changing Customs of the Riverain Sudan—II.” Sudan Notes and Records 37 37 (1956): 56–69.
  • “The Changing Customs of Riverain Sudan: IV: Marriage.” Sudan Notes and Records 2 (1998): 13–36.
  • “The Changing Customs of the Riverain Sudan.” Sudan Notes and Records 36, no. 2 (1955): 146–58.
  • “The Changing Customs of the Riverain Sudan—III.” Sudan Notes and Records 45 (1964): 12–28.
  • Hills-Young, Elaine. “Charms and Customs Associated with Child-Birth.” Sudan Notes and Records 23, no. 2 (1940): 331–35.
  • Zenkovsky, Sophie. “Customs of the Women of Omdurman Part II.” Sudan Notes and Records 30, no. 1 (1949): 39–46.
  • “Marriage Customs in Omdurman.” Sudan Notes and Records 26, no. 2 (1945): 241–55.
No items found.
نُشر بتاريخ
12/11/25
المؤلف:
سبأ هلالي
Editor
سارة النقر
المحرر:
مأمون التلب
المترجم:
Translator
نبيل محمد نور طه

أجسادٌ مُزَيَّنة وأرواحٌ مَحرُوسة: قراءة في الجَرتق السوداني كمَعرِفة مُجَسَّدَة

لم تكن الولادة أو الزواج في السودان القديم تجاربَ فردية، بل كانت تُختَبر جماعيّاً عبر طقوس أَضفَت عليها طابعاً مقدساً، وجعلتها تجارب تشكَّلت عبرها الجماعة ومعيشتها، وعلى رأس هذه الطقوس كان "الجرتق". وتعليل الكلمة غير مضبوط، يقول عبد الله الطيب لعلها من الكلمة العربية "دردق" بمعنى صغار الإنس والحيوان، بينما يشير عون الشريف إلى أصلها من "جِرت"، وهي الزينة التي تُلبَس في الطقس. أيَّاً كان أصل الكلمة، فقد تميّز الجرتق بموقعه الرمزي كطقس للعبور من حالة اجتماعية إلى أخرى، وكمُنت أهميته في كونه مساحة أُدير فيها الخير والسوء، الحماية والانكشاف، الهوية والانتماء. يُعد الجرتق بما حواه من عناصر مُميَّزة، كالبخور والزينة والغناء والدعاء الجماعي، طقساً احتفاليَّاً وحِمَائيَّاً في آنٍ واحد، يحقق الإدماج الاجتماعي ويُؤطر تحولات الهوية الجندرية. بأدائه الجسديّ ومنطِقه الروحيّ، يَعكِس الجرتق أنساقاً معرفية محلية ترتبط بالصحة والخصوبة واستمرار الجماعة.  لم يكن الطقس مجرد ممارسة تجميلية أو شكلية، بل بنية رمزية ومعرفية تُشكّل من خلالها النساء أجسادهنّ وحيواتهنّ ضمن العلاقات الاجتماعية. وبالرغم من أن الجرتق ظل حاضراً في بعض المجتمعات، إلا أن تحوّلات الحداثة ومفاهيمها الطبية عن الجسد والمرض أدَّت إلى تآكل وظيفته الاجتماعية. هذه المقالة هي محاولة لاستعادة الجرتق كممارسة معرفية مُجسَّدة وموقع لمقاومة نُظم الضبط الاستعمارية.

الجرتق كطقس عبور:

ارتَبط الجرتق بلحظات الانتقال في الحالة الاجتماعية، مثل الختان، الزواج، الحمل، والنفاس. وهو طقس نسويّ بامتياز، تديره النساء وتُحاط فيه المرأة بأخريات يشاركنها الغناء والتزيين والتبخير، في أُختِيَّة لم نبلغها اليوم بما استَعِرنَاهُ من السياسة الأمريكية. نُظِر إلى هذه الطقوس على أنها حماية من الحسد و"العين الحارة"، لكنّها أيضاً عَملت على إعادة تشكيل الهوية الجندرية والاجتماعية. وعلى عكس ارتباط الجرتق اليوم بالزواج، وأحياناً بالختان، فقد كان قبلاً يُمارس كذلك في الشهر السابع من الحمل وبعد الإنجاب.

يقام طقس الختان/الطهور في الفترة بين الميلاد والبلوغ، ويُعامل فيه الصبي المُطهَّر أو الفتاة المطهَّرة بتكريمٍ كبير؛ ترتدي الفتاة ملابس وحليّ الجرتق، بعيون مُحَاطَة بالكحل، وقلائد مُحدَّدة بخرز من حَجَر الدم -والذي يُعتَقد أنه يوقف النزيف ويُسَرِّع الشفاء- بينما يُربط شريط حريريّ أحمر على المعصم الأيمن، وتتزيَّن الراحتان والقدمان بالحناء، ويُزَيَّن الصبيّ بالمثل. يُختَن الأولاد والبنات على عنقريب (السرير السوداني التقليدي) مغطّى بحصير أحمر، ويستلقون عليه لمدة أسبوع تقريباً. أما جرتق الزواج، فقد كان حدثاً محوريّاً يفصل بين حياة العزوبة والدخول إلى عالم الزوجية. وجرتق الزواج مستفيض ومُحكَم في تفاصيله. تجلس العروس والعريس خلال المراسم على عنقريب مُزيَّن بسعف النخيل، وتلعب الأغاني دوراً كبيراً في تشكيل هذه اللحظة، حيث تتغنَّى النساء بجمال العروس، ونسبها، وصفاتها، وأحلامها في الحياة الجديدة. في ذات الوقت، يُحاط جسدها بالبخور ويُرَش بالماء والعطر، ما يَخلق مجالًا بينيّاً بين المادة والروح، ويوفِّر حماية من الحسد. هذه اللحظة لا تخص العروس وحدها، بل هي لحظة جماعية تُظهر قوم النساء كمجتمع متضامن ومتشارك في إنتاج المعنى والحماية.

في سياق الحمل والنفاس، تؤدي طقوس الجرتق دوراً في دعم المرأة معنويّاً وجسديّاً، وتحفيز ارتباطها بجسدها ومَوقَعَتِهَا في مجتمعها. تجلس الحامل على عنقريب يُوضَع عادةً في منتصف الحوش مواجهاً الشرق، ويُتوَّج شعرها المُضفَّر حديثاً بمسحوق خشب الصندل ممزوجاً بالعطر، تُسوَّد عيناها وحاجباها بالكحل، ويُفرَك وجهها وبشرتها بالدلكة. ترتدي قلادةً من قرص فضي يُسمى "فرج الله"، وتُوضع تماثيل صغيرة ذات أشكال مُنفرة بالقرب من سريرها لدرء الحسد، مع أن بعض الجماعات، مثل الجعليين والرباطاب، لم تمارس هذا الجانب تحديداً، إذ اختلفت تفاصيل ومراسم الجرتق من مجتمع لآخر. على سبيل المثال، في مناطق سنار وسنجة، كان هناك طقس "أكل العصيدة"، حيث كانت النساء يُمَسِّحن بطن الحامل المكشوف بحفنات من عصيدة الدخن والسمن، يُعتقد أنهما يعزِّزان الخصوبة، لها وللحاضرات. وتبقى المرأة في هذه الحالة المزينة حبيسة منزلها لمدة أسبوع تقريباً، تلتزم خلالها بالمحرّمات التي يُعتقد تسبيبها المشاهرة (جميع ما يصيب الحمل من أمراض). بعد الولادة، تخضع النَفَسَا (الأم الجديدة) وطفلها لطقوس جرتق النُفاس مرةً أخرى. وتؤكّد هذه الطقوس المحكمة على الجهد الجماعي الذي يبذله المجتمع لضمان سلامة الأم وخصوبتها، وكأنها شرنقة واقية منسوجة حول الأم الحامل، لتحضيرها وطفلها لوصولٍ مبارك إلى العالم.

نرى هنا كيف أن الجرتق طقس للعبور، إذ يُجسِّد عملية انتقال اجتماعي وثقافي مُنَظَّمة من مرحلة إلى أخرى، وما يُرافق ذلك من تحوّل في الهوية والمكانة داخل الجماعة. تُعزل الأنثى فيه مؤقتاً عن الحياة اليومية وأدوارها السابقة، ويُخصَّص مكان وزمان محدَّدَين للجرتق، وتُرتدى لباس وزينة مغايرة لما يُرتدى في الحياة اليومية. تحمل طقوسه طابعاً رمزياً مكثفاً: الألوان مثل الأحمر والذهبي، الحلي، العطور والبخور، وحركات الجسد المرافقة للأغاني والرقص؛ تبدو أدوات تعبيريَّة تؤكد على التحوّل الجاري، وتربط الفرد بمنظومة قيم وجماليات متوارثة. وينتهي الطقس بإعادة إدماج تعود فيها الأنثى إلى الجماعة وهي تحمل مكانة جديدة، ليُعترف بها رسمياً كعضوة تتمتع بحقوق وواجبات مختلفة. تنتقل روح النساء عبر أجساد مختلفة، من جسد الطفلة إلى جسد الأنثى مكتمل العضوية، ثم إلى الجسد المتزوج المجنسن، ثم الجسد الحامل للحياة، إلى جسد الأم. وبهذا، فإن الجرتق ليس مجرد احتفال جمالي أو إعلان، بل هو فعل اجتماعي-ثقافي يُعيد إنتاج النظام الرمزي والاجتماعي وتعريف موقع الشخص داخل الجماعة، وتحافظ على استمرارية الهوية الجمعية بتأكيده الانتماء إلى سلسلة نسب، وتقاليد ممتدة عبر الأجيال، ودمجه الخبرة الفردية في السردية الجماعية.

مَعرفة مُجَسَّدة:

نجد هنا أن الجرتق تجسيد لأنماط من المعرفة المتوارثة شفهياً عبر الأجيال، خصوصًا من الحبوبات (الجدّات)، اللائي يُرَتِلنَ الدعوات والأهازيج ويراقبن علامات الجسد بنظرة خبيرة لا تعتمد على أدوات حديثة، بل على معرفة حية وممارَسة. هذا النوع من المعرفة لا يمكن فصله عن السياق الثقافي والاجتماعي، وهو ما يجعل الجرتق مَدخلًا لفهم كيفية إنتاج نساء السودان معرفة بديلة، نسويّة ومُجتمعية. وهي ليست معرفة طبية بالمعنى الحديث، ولا هي فقط علاجية للجسد، بل اجتماعية وروحانية وجمالية، وتعبِّر عن فهم جماعي متوارث للعافية والخصوبة والحماية.

يتكشّف لنا هنا نظام اجتماعي ثقافي مسؤول عن التنظيم العام للجنسانية والاستمرار وتكوين الأسرة، والذي شكَّلته وأدارته شخصيات اجتماعية، وفي الأغلب نسائية. على سبيل المثال، كانت الحبوبات مؤسسات ثقافية وحافظات للتراث، لعبن دوراً حيّاً في طقوس الجرتق بأدوار لا يؤديها سواهن. كما كانت الدايات حكيمات الختان والحمل والنفاس، وحافظات الجسد الأنثوي، وعملن في اتصال وثيق بوظائفه الإنجابية. وهنا تظهر لنا شخصية أخرى، شيخة الزار، التي أدارت جلساته تعبير النساء (والرجال) عن رغبات مُحرَّمة ليصبح المنفذ الاجتماعي لها، وقدَّمت طقوساً علاجية تناولت قضايا الخصوبة، مثل الختان والزواج والطلاق والحمل والولادة والطفولة والرغبة الجنسية، بالإضافة إلى السلوك العام والتنشئة الاجتماعية. كانت طقوس الزار هي النظير الروحي للختان الجسدي، إذ هي كذلك جدَّدت سلامة وقوة جسد الأنثى وأَشْفَت روحها من عيوبِه. وليس من قبيل الصدفة أن العديد من شيخات الزار أو مؤدّياته كنَّ دايات أو عاملات في المجال الطبي. هذا إضافة إلى المشاطات (كان تمشيط الشعر جزءاً أساسياً من طقوس الجرتق)، ودقَّاقَات الريحة (صانعات العطور) وغيرهنَّ من النساء اللائي شغلن أدواراً اجتماعية كوَّنت شبكة مُحكمة لجسد معرفيّ نسويّ جماعيّ مُتَكَامِل، مثَّل الجرتق فيه تجسيداً واتحاداً بين عناصره وشخصيّاته المختلفة.

تفكيك الطقس تحت الاستعمار:

مع قدوم الاستعمار البريطاني، تم تفكيك الأنظمة العلاجية المعرفية التقليدية لصالح نظام طبي قومي بيروقراطي حديث، نُزع فيه الجسد من بعده الجماعي والطقسي. فعلى سبيل المثال، تم حصر طقوس مثل الجرتق في نطاق "التراث" بدلًا من كونها ممارسات حيّة. وقد اعتُبرت ممارسات الجرتق والزار والختان وغيرها مظاهر للتخلف والجهل من وجهة نظر المستعمرين وأطباء الصحة العامة. جرى إخضاع الجسد الأنثوي لخطاب السلطة الطبية، وتحويله إلى موضوع للرصد والتدخّل والتطبيع ضمن منطق الدولة الاستعمارية التي رَبطت الصحة بالنظام والسيطرة.

أحدث النهج العقلاني للإنجاب الذي فرضته السلطات الاستعمارية تحوّلاً كبيراً في نظرة النساء السودانيات إلى أجسادهن. قبل هذا التدخل، أُعطيت أهمية ثقافية للخصوبة والرحم كمصدر للحياة، حيث كانت الحياة الجنسية للمرأة وقدرتها الإنجابية وجسدها في تشابك عميق مع هويتها ومجتمعها. لم تكن الخصوبة مجرد وظيفة بيولوجية، بل جزءاً من هوية الأنوثة تحكمه رموز الختان والزواج والولادة، وتُشفى أعلاله بعلاجٍ روحيّ يَسمح للمرأة بتجلٍّ ذاتيّ (الزار) يرفض فيه المجتمع أن يعيبها، بل يعيب أسباب خارج نطاق روحها أو جسدها (كالجن). هنا تَنَاقَضَ الزار مع الفردية الغربية، التي تُضفي خصائص محددة ومُعَرَّفة على الجسد والعقل تَفصِل بين كلٍّ منهما. وكان هذا المفهوم "العلائقي" للزول (الشخص) السوداني، الذي اعتبر الأخلاق والقيم والأعلال والصراع الذاتي مسؤولية جماعية وليست فردية؛ يفوق ما تستطيع الحساسيات الغربية تحمله. وبينما يتعامل الجرتق مع الجسد كموقع للمعنى والارتباط والذاكرة، تُعبِّر فيه الزينة والأنغام عن مفردات علاجية تربطه مع الروح، قدَّمت السلطات الاستعماريَّة الجسد كآلة وظيفية مُفرَدة، تحكمها عمليات فسيولوجية يُمكن فهمها وإدارتها علميّاً، في انفصال تام عن الذوات الداخلية أو الانتماء الجماعي.

ضمن هذا السياق، لم يكن تفكيك الثقافة والممارسات الإنجابية، ومن بينها الجرتق، مجرد إلغاء طقس، بل كان تفكيكاً لمنظومة رمزية ومعرفية كاملة، وإعادة تشكيل للعلاقات الاجتماعية والإنتاجية. مثالاً، حَلَّت القابلة النظامية محل الدَّاية، ونُظر إلى الدايات كمصدر تهديد للصحة العامّة، وتمت ملاحقتهنّ قانونيَّاً، وفُرِضَت عليهنّ رقابة شديدة. صوَّر نظام القبالة الحديث الإنجاب كوظائف طبية حيوية تتطلب إدارة خبراء مهنيين، وليس كتكوينات أنثوية مُدمجة في المعاني الثقافية. فنُصحت النساء بتحديد أوقات ومدة الرضاعة وتنظيمها، وبوضع الرضع إلى النوم بمفردهم. فُرِضَت هذه التدخلات في الأمومة فرديةً أوروبية على الأمهات السودانيات، اللواتي اعتُبِرَت مفاهيمهنّ عن الجسد وشَخصِه بدائية وغير عقلانية وخاطئة.

بالإضافة إلى ذلك، شملت التعاليم أموراً تتعلق بالروتين الجسدي واللباس وتنظيم النظام الغذائي، امتدَّت لتشمل تعليمات حول كيفية مضغ الطعام بشكل صحيح. وهي إجراءات مُصَمَّمَة لتشكيل جسد الأم إلى وعاء تكاثري فعَّال وظيفيَّاً. فَرَضَ هذا على النساء نوعاً من الضبط الذاتي لأجسادهنّ، وطبَّع مراقبة شمولية لجسد الأنثى، حيث أصبح كل سلوك وإيماءة وعادة خاضعة للتدقيق والتصحيح، وتم ترسيخ نوع جديد من الخصوبة والأمومة. وفي هذا الشكل من التربية الحيوية-السياسية، أُعيد ترتيب العلاقة بين الجسد والمجتمع والدولة.

الجرتق اليوم: بين الفلكلور والمقاومة الحية

رغم كل هذه التغيُّرات، لا يزال الجرتق يُمارَس في بعض المجتمعات الريفية والحضرية، وإن كان في صُور مختزلة أو مُعدَّلة. يُستخدم أحياناً كأداة للهوية الثقافية، ولتأكيد الانتماء لماضٍ مشترك. وتُستخدم عناصر الجرتق اليوم أيضاً في مناسبات اجتماعية وفنية، ما يشير إلى استمرار رمزيته وأثره في الذاكرة الجمعية. بعض النساء الشابات، خصوصاً في سياقات الشتات، يعدن تخيُّل الجرتق كأداة لتأكيد الهوية الثقافية، وإعادة الاتصال بالأصول والمعاني المحلية. هذا الشكل من الاستمرارية لا يخلو من التحديات، فالكثير من ممارسات الجرتق تخضع لإعادة تفسير ضمن سياقات حديثة، وقد تُفرّغ من مضمونها المعرفي لصالح البُعد الجمالي أو الفلكلوري. ومع ذلك، فإن مجرد بقائه كفعل اجتماعي يشير إلى قدرة الطقس على تجاوز الزمن، والبقاء كموقع للمقاومة الناعمة، واستعادة الذاكرة.

لا يمكن فهم طقس الجرتق بمعزل عن بنيته الثقافية والاجتماعية والروحية. فهو ممارسة حية أَنتَجت عبر الزمن معرفة وهوية وجمالًا. وهذا المقال ليس محاولة لاستعادة الطقس كما كان ورفض العلوم الطبية الحديثة، وهو ما سيشكل تناقضاً مع محاجّته الأساسية. فإن كان الجرتق في الماضي جزءاً أصيلاً من نظام معرفيّ متكامل عن الجسد، تشابكت فيه العلاقات الاجتماعية، فهذا يقتضي انتفاء إمكان استعادته بهذا المعنى، فحقيقة الأمر أننا اليوم في نظام عالمي مختلف. إن إعادة الاعتبار لهذا الطقس لا تعني استعادة الماضي، بل هي فعل مقاومة ضد محاولات المحو وإعادة هيكلة الحياة وفق منطق الدولة الاستعمارية. بذلك، يشكل الجرتق مدخلًا لفهم كيف قاومت النساء في السودان استلاب الجسد والمعنى، وحافظن على معارفهنّ الُمَجسَّدة في مواجهة أنماط الحداثة القسرية. من خلال إعادة تأطير الجرتق كممارسة نسوية ومجتمعية غنية بالمعرفة، تؤكد هذه المقالة على أهمية إدماج الطقوس التقليدية ضمن الدراسات المعرفية والطبية والهويّاتية، ليس بوصفها مجرد عادات وتراث يجب الحفاظ عليهما، بل كأطر بديلة لفهم الحياة والمجتمع والجسد؛ أُطُر قد لا نستطيع استعادة محتواها وقد نرفضه إجمالاً، إلا أن المسألة هنا ليست مسألة محتوى، بل مسألة شكل. مسألة التفكير والسعي نحو استعادة هوية ومعارف وعلاقات جماعية تشاركية تتحدَّى النظام الاستعماري الذي يَفْصِل عوضاً عن أن يجمع؛ يفصل الخاص عن العام، والذات عن جسدها، والشخص عن جماعته. يؤكد لنا الجرتق أهمية أن نَجمع ونُكامل تحت وطأة نظام عالمي يستمر في إثبات فشله اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

صورة الغلاف التقطت بواسطة: يوسف الشيخ

المراجع

  • عون الشريف
  • Boddy, Janice. “Barbaric Custom and Colonial Science: Teaching the Female Body in the Anglo-Egyptian Sudan.” Social Analysis (Adelaide, S.A.) 47, no. 2 (2003): 60–81.
  • “Bodies under Colonialism.” In A Companion to the Anthropology of the Body and Embodiment, edited by Frances E. Mascia-Lees, 119–36. Chichester, UK: Wiley-Blackwell, 2011.
  • Civilizing Women: British Crusades in Colonial Sudan. Princeton: Princeton University Press, 2007.
  • Wombs and Alien Spirits: Women, Men and the Zar Cult in Northern Sudan. Madison, WI: University of Wisconsin Press, 1989.
  • El Tayib, Abdulla. “Changing Customs of the Riverain Sudan—II.” Sudan Notes and Records 37 37 (1956): 56–69.
  • “The Changing Customs of Riverain Sudan: IV: Marriage.” Sudan Notes and Records 2 (1998): 13–36.
  • “The Changing Customs of the Riverain Sudan.” Sudan Notes and Records 36, no. 2 (1955): 146–58.
  • “The Changing Customs of the Riverain Sudan—III.” Sudan Notes and Records 45 (1964): 12–28.
  • Hills-Young, Elaine. “Charms and Customs Associated with Child-Birth.” Sudan Notes and Records 23, no. 2 (1940): 331–35.
  • Zenkovsky, Sophie. “Customs of the Women of Omdurman Part II.” Sudan Notes and Records 30, no. 1 (1949): 39–46.
  • “Marriage Customs in Omdurman.” Sudan Notes and Records 26, no. 2 (1945): 241–55.