اللغة التي تغني

في البدء كانت هنالك اللغة. التي وُصِفَت مرةً بأنها مجرَّد إشارات بدائيَّة لمسميات واهنة لغنىَ العالم غير المُحتمل، وعندما أدركنا عجز اللغة الكامن خلف هذه الحقيقة بدأنا ثورتنا الحضارية

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
23/10/25
المؤلف:
عُنَّاب عُلمان
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
المترجم:
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

الّلغة التي تُغنِّي: الحكَّامات كحارسات للتراث

في البدء كانت هنالك اللغة. التي وُصِفَت مرةً بأنها مجرَّد إشارات بدائيَّة لمسميات واهنة لغنىَ العالم غير المُحتمل، وعندما أدركنا عجز اللغة الكامن خلف هذه الحقيقة بدأنا ثورتنا الحضارية، شَرَعنا في البحث عن مجازات هذه اللغة وفهمها، عبر الكتابة والغناء ورواية القصص وإلقاء الشعر. اختَرَعنا الأدب كمنفذٍ للخروج من هذا الانغلاق والعجز، ومنذ ذلك الحين لم تَعد اللغة وسيلةً للتواصل فحسب، أو مجرد رموز أولية لمسميات واهنة لغنى العالم، بل أضحت فضاءً رحباً لصياغة المعنى وإعادة اكتشاف العالم، بل وتشييده أحياناً.

ليست العلامة الأولى التي تُشير لبدء الحضارة -كما ترى البروفيسورة الأنثروبولوجية مارغريت ميد- عظمة الفخذ التي عُثِرَ عليها في كهفٍ عمره خمسة عشر آلاف عام، وقد التأم كَسرُها لأن أحدهم اعتَنَى بالمصاب -هذه من الممكن أن تكون علامة على بدء الإنسانية في الغابة- بل العلامة التي تشير لبدء الحضارة هي عندما بدأ الناس يخلقون المجازات اللغوية، يحكون القصص، ينشدون ويرتّلون ويغنون الأغنيات،يتناقلوها ويؤلّفونها؛ تلعبُ هذه اللغة المحكية دوراً جوهرياً، ليس فقط كوسيط ناقل من أجل التعامل في الحياة اليومية داخل مجموعة ما أو كمنفذ للخروج من انغلاق اللغة، بل كحاضن لتراث البشر ككل، وشريك في تشكيله وإعادة إنتاجه داخل الوعي الجمعي، ليس لأمةٍ مَا فقط، بل لكامل النوع البشري.

بذلك يمكننا اعتبارُ اللغة صورةً من صور التراث ومضامينه والعكس، وتُمنَح من خلاله الحيوية والقدرة على التعبير عن تجارب الحياة المتنوعة في المُشاع. والعلاقة بين اللغة والتراث علاقة عضوية متشابكة، يتغذّى كلٌّ منهما على الآخر ويُسهم في بقائه واستمراره، لا سيما في السياقات الشفاهية مثل أغاني الحكّامات، التي تُعد واحدة من أبرز تجليات هذا التداخل في غرب السودان تحديداً ومناطق أخرى من إفريقيا.

نرى اليوم في السياقات التي يغيب فيها التوثيق المكتوب، وتحديدًا توثيق التراث الشعبي لمجموعات مهمَّشة أو تواجه استلاباً ثقافيَّاً؛ أن الشفاهة تتقدم باعتبارها ذاكرة جمعية بديلة غير مُدَوَّنة، والحكَّامات في غرب السودان هنّ نساء من الهامش غالباً، أصبحن حارسات لهذه الذاكرة وحافظات لها وناقلات إياها عبر الأجيال، بأصواتهن، ولغتهن، وغنائهن المُشبع بالمجاز.

الحكَّامة مخزن للتراث الجمعي:

الحكَّامة لقب، عادةً ما يُطلق على النساء الرائدات في دارفور وكردفان، معروفات بشِعرِهِنَّ وغنائِهِنّ، ولديهن سلطة واسعة على الرجال في تلك المجتمعات، ويؤدّين أدواراً محورية في مجتمعاتهنّ الريفية. أغانيهن تمثل نوعاً من الشعر الغنائي الشفاهي، محمّل بالمعاني الاجتماعية والسياسية والثقافية. والحكَّامات في غرب السودان يُحافِظن على التُّراث من خلال الُّلغة والعكس، تستوعب لغتهن الغنائية في موسيقاهم الحب والنزاع والصراع وتقاليد أمة ما، حابلًا ونابلًا، تَنقل التاريخ وتثبِّت المفاهيم والمعاني المتجذّرة في اللغة المحلية، وتُبقي الّلهجات وتحميها من الاندثار في وجه اللغة الحديثة، اكتساح العولمة، النزوح، والتعليم المقتَصِر على اللغة الرسمية في البلاد.

تمثل أغاني الحكّامات نقطة التقاء نادرة بين اللغة والتراث، حيث تُختزل الذاكرة الجمعية في كلمات تُغنّى، وتَمنح اللغة بعداً ثقافياً يتجاوز الاستخدام اليومي، ويعتبر حفظ هذه الأغاني وتوثيقها ليس فقط حفاظاً على تراثٍ موسيقي، بل هو أيضاً حفاظ على لغةٍ وهوية بأكملها، وهنا تتجلى العلاقة بين اللغة والتراث في أوضح صورها.

لا تكمن أهمية هذه اللغة الغنائية في قدرتها على حفظ التراث فقط أو نقل التاريخ بل في السلطة التي تتسم بها دون سواها، سلطة ترسيخ اللهجات واللغات المحلية وتوسيع مفرداتها وتنويعها.  وأغاني الحكّامات ليست مجرد أغانٍ فلكلورية قديمة تتجدد ولا تنتهي وتتوارثها الأجيال تِباعاً، بل هي وعاء اللغة تقتات عليه، وتُحافظ هذه اللغة الغنائية على اللهجات المحلية وتمنحها السلطة الأدبية والشعرية التي تعزز من شرعيتها من خلال خلقها تراثاً سمعياً يحفظ تراثاً متناقلاً تتم أرشفته.

على سبيل المثال وليس الحصر، أغنية "الْبِل عَمَلنْ جوطة" التي أدتها الحكَّامة شادن قردود في العقد الأخير، لا تحتفي فقط بالإبل وقيمتها أو الراعي وحنكته في الرعي ودرايته بسعيته، بل تؤسس لشفرة ثقافية كاملة، فهي تحمل في نبرتها وإيقاعها ومفرداتها خلاصة بيئة بأكملها، حيث يصبح وصف حركة القطيع استعارة عن الانسجام الجماعي، ويغدو ذكر الفولة استدعاءً لنبض الحياة في البادية التي هي كل شيء بالنسبة لهؤلاء القوم؛ هي هويتهم وذاكرتهم وكل قيمهم موجودة فيها وبفضلها. يصبح صوت الحكّامة هنا وسيطاً ينقل كل هذا: تراثاً شفهياً جيلاً بعد جيل، حاملاً معه الذاكرة واللغة وصور المكان.

نرى في فيديو لطيف بإحدى بوادي كردفان على يوتيوب الحكامة شادِن أمام جمع من الناس، بصوت عذب، وهي تمشي متأنّية على السهل المنبسط، تغني: "ألْبِل أبّن طولا،كسّن جِيهة الفُولة"، ما يعني أن الإبل استجابوا لنداء الراعي وساروا جهة الفولة -مورد المياه- "تبريت شدّنْ حولا لحسن المي الفوقا": التبريت هن الإبل الموجودة في آخر القطيع، ومعنى الجملة هو أن حتى الإبل الموجودة في آخر القطيع أسرعت لتلحق بمورد المياه مع بقية الإبل، وليشربوا الماء الموجود بالفولة. هذه الأغنية -وفق سلوى المشلي وشرحها لمعانيها- أغنية من تراث قبيلة الحمر، وكانت أصلاً تتغنَّى بها البنات في أواخر سبعينيات القرن الماضي.

العلاقة بين اللغة والتراث:

انقراض لغة ما، أو لهجة، يؤدي إلى فقدان كمٍ هائل من التراث الثقافي المرتبط بها، والعكس صحيح؛ اندثار التراث يُفقِد اللغة محتواها الحيوي. إن كانت اللغة حافظة للذاكرة الجمعية، أي محفظة تُخزَّن فيها الحكايات، الأمثال، الأغاني، الأساطير، الطقوس، العادات والتقاليد الخاصة بأمة ما، فهذا يعني أن هذه اللغة كلما ضعفت تآكل تراثها، لأن التراث يُثري اللغة ويساهم في إنتاج أنماط لغوية غنية بالصور البلاغية، فمثلاً لو اختفت كلمة مثل "الفُولة"، التي تعني مورد المياه الموسمي الذي تشرب منه الإبل والماشية، بكل دلالاتها، وكونها جزء من أمرٍ مهمّ وجوهري بالنسبة لقوم الرعي، هو قوام الحياة عندهم. هذا يعني أن جيلاً كاملاً جديداً فقد رابطاً بأحاسيسٍ موغلة في القِدم. بالطبع ستكون هنالك مفردة مرادفة للكلمة، لكنها ستكون يتيمة وبلا قصة. وغيرها من كلمات ذات صلة بالرعي كالسعيِّة والمرواح التي تعني عودة الماشية من المرعى عند الغروب، أو الزهايم التي تعني أماكن تجمع المياه بعد المطر، وهذه ليست مجرد كلمات بل هي مفاتيح لفهم ثقافة بأكملها. ومع تتابع النزاعات المسلحة في أماكن مثل درافور وكردفان، ما يعني توقف دولاب الحياة فيها -الرعي تحديداً- والنزوح المتكرر، من الجلي أن التوقف عن استخدام هذه المفردات سيحتّم انقراضها بمرور الزمن، أو تناسيها في الأجيال اللاحقة.

مقاومة التهميش والاندثار:

كيف تحافظ اللغة على التراث في أغاني الحكّامات؟

في نكران كامل للثقافات، ثقافات الآخر، وبمسميات أخرى في سياقات التهجير، النزاعات، التهميش الممنهج أو الاستعمار الثقافي؛ تصبح أغاني الحكّامة أداة مقاومة فعَّالة تُعيد ربط الناس بهويتهم ولغتهم وثقافتهم المحلية، وأداة لمقاومة النسيان وإعادة ربط الجذور في سياق النزوح القسري المتكرر، لا سيما في غرب السودان، فالحكامة تغنّي في كل مكان وتحت أي ظرف، وتستخدم لغة محكية - لهجة محلية غالباً- لكنها شاملة، مليئة بالحياة اليومية، ومهمومة، في ذات الوقت، بالقضايا الكبرى لمجتمعها، ما يجعل أغانيها مرآةً للثقافة الشعبية، ثقافة تُشَكِّلها تفاصيل الحياة اليومية، أسماء الأماكن، الحيوانات، الطقوس، المناسبات عامة، الأفراح والأتراح..إلخ إلخ. وبذا، تُشَكِّل أغانيهنّ أرشيفاً تاريخيَّاً حيَّاً، صادقاً ونزيهاً، للأحداث، الحروب، العلاقات، والمواقف الاجتماعية.

في كلّ السياقات الآنف ذكرها، تصدح الحكامة بصوتها، في معسكرات النزوح حتى، حول نيالا أو الجنينة أو غيرها من مدن، كأنها تصرّ على أن المكان لا يزال يتكلم بلسانه الأصلي. هنا يظهر صوتها وفعلها الغنائي كمقاومة ضد أي كان ما يحدث، صمتاً قسريّاً أو نكراناً ثقافيَّاً تفرضه الحرب التي تشنها اللغة القومية للبلاد ضد اللهجات لمحلية.

هكذا، من الماضي إلى الحاضر، تظل الحكامات بأصواتهن ينسجن على النول الموسيقي خيوط اللغة، فتخرج الأهازيج بإيقاعات مختلفة كوشاح طويل يحوي ذاكرة التراث على مر الأزمان ويحميها من النسيان. ويتضح من دراسة الدور الذي تلعبه الحكّامة في حفظ التراث من خلال اللغة عبر الأغاني التي تؤديها أن الأغنية الشفاهية غير المدونة هذه ليست مجرد أداة فنية، بل آلية مُعقَّدة، تمثِّل جزءً أساسيَّاً من حماية الهوية اللغوية والثقافية للمجتمعات المهمشة.

صورة الغلاف: نساء يحتفلن بالطرق على الدلاء © ساري عمر

No items found.
نُشر بتاريخ
23/10/25
المؤلف:
عُنَّاب عُلمان
Editor
سارة النقر
المحرر:
مأمون التلب
المترجم:
Translator
الّلغة التي تُغنِّي: الحكَّامات كحارسات للتراث

في البدء كانت هنالك اللغة. التي وُصِفَت مرةً بأنها مجرَّد إشارات بدائيَّة لمسميات واهنة لغنىَ العالم غير المُحتمل، وعندما أدركنا عجز اللغة الكامن خلف هذه الحقيقة بدأنا ثورتنا الحضارية، شَرَعنا في البحث عن مجازات هذه اللغة وفهمها، عبر الكتابة والغناء ورواية القصص وإلقاء الشعر. اختَرَعنا الأدب كمنفذٍ للخروج من هذا الانغلاق والعجز، ومنذ ذلك الحين لم تَعد اللغة وسيلةً للتواصل فحسب، أو مجرد رموز أولية لمسميات واهنة لغنى العالم، بل أضحت فضاءً رحباً لصياغة المعنى وإعادة اكتشاف العالم، بل وتشييده أحياناً.

ليست العلامة الأولى التي تُشير لبدء الحضارة -كما ترى البروفيسورة الأنثروبولوجية مارغريت ميد- عظمة الفخذ التي عُثِرَ عليها في كهفٍ عمره خمسة عشر آلاف عام، وقد التأم كَسرُها لأن أحدهم اعتَنَى بالمصاب -هذه من الممكن أن تكون علامة على بدء الإنسانية في الغابة- بل العلامة التي تشير لبدء الحضارة هي عندما بدأ الناس يخلقون المجازات اللغوية، يحكون القصص، ينشدون ويرتّلون ويغنون الأغنيات،يتناقلوها ويؤلّفونها؛ تلعبُ هذه اللغة المحكية دوراً جوهرياً، ليس فقط كوسيط ناقل من أجل التعامل في الحياة اليومية داخل مجموعة ما أو كمنفذ للخروج من انغلاق اللغة، بل كحاضن لتراث البشر ككل، وشريك في تشكيله وإعادة إنتاجه داخل الوعي الجمعي، ليس لأمةٍ مَا فقط، بل لكامل النوع البشري.

بذلك يمكننا اعتبارُ اللغة صورةً من صور التراث ومضامينه والعكس، وتُمنَح من خلاله الحيوية والقدرة على التعبير عن تجارب الحياة المتنوعة في المُشاع. والعلاقة بين اللغة والتراث علاقة عضوية متشابكة، يتغذّى كلٌّ منهما على الآخر ويُسهم في بقائه واستمراره، لا سيما في السياقات الشفاهية مثل أغاني الحكّامات، التي تُعد واحدة من أبرز تجليات هذا التداخل في غرب السودان تحديداً ومناطق أخرى من إفريقيا.

نرى اليوم في السياقات التي يغيب فيها التوثيق المكتوب، وتحديدًا توثيق التراث الشعبي لمجموعات مهمَّشة أو تواجه استلاباً ثقافيَّاً؛ أن الشفاهة تتقدم باعتبارها ذاكرة جمعية بديلة غير مُدَوَّنة، والحكَّامات في غرب السودان هنّ نساء من الهامش غالباً، أصبحن حارسات لهذه الذاكرة وحافظات لها وناقلات إياها عبر الأجيال، بأصواتهن، ولغتهن، وغنائهن المُشبع بالمجاز.

الحكَّامة مخزن للتراث الجمعي:

الحكَّامة لقب، عادةً ما يُطلق على النساء الرائدات في دارفور وكردفان، معروفات بشِعرِهِنَّ وغنائِهِنّ، ولديهن سلطة واسعة على الرجال في تلك المجتمعات، ويؤدّين أدواراً محورية في مجتمعاتهنّ الريفية. أغانيهن تمثل نوعاً من الشعر الغنائي الشفاهي، محمّل بالمعاني الاجتماعية والسياسية والثقافية. والحكَّامات في غرب السودان يُحافِظن على التُّراث من خلال الُّلغة والعكس، تستوعب لغتهن الغنائية في موسيقاهم الحب والنزاع والصراع وتقاليد أمة ما، حابلًا ونابلًا، تَنقل التاريخ وتثبِّت المفاهيم والمعاني المتجذّرة في اللغة المحلية، وتُبقي الّلهجات وتحميها من الاندثار في وجه اللغة الحديثة، اكتساح العولمة، النزوح، والتعليم المقتَصِر على اللغة الرسمية في البلاد.

تمثل أغاني الحكّامات نقطة التقاء نادرة بين اللغة والتراث، حيث تُختزل الذاكرة الجمعية في كلمات تُغنّى، وتَمنح اللغة بعداً ثقافياً يتجاوز الاستخدام اليومي، ويعتبر حفظ هذه الأغاني وتوثيقها ليس فقط حفاظاً على تراثٍ موسيقي، بل هو أيضاً حفاظ على لغةٍ وهوية بأكملها، وهنا تتجلى العلاقة بين اللغة والتراث في أوضح صورها.

لا تكمن أهمية هذه اللغة الغنائية في قدرتها على حفظ التراث فقط أو نقل التاريخ بل في السلطة التي تتسم بها دون سواها، سلطة ترسيخ اللهجات واللغات المحلية وتوسيع مفرداتها وتنويعها.  وأغاني الحكّامات ليست مجرد أغانٍ فلكلورية قديمة تتجدد ولا تنتهي وتتوارثها الأجيال تِباعاً، بل هي وعاء اللغة تقتات عليه، وتُحافظ هذه اللغة الغنائية على اللهجات المحلية وتمنحها السلطة الأدبية والشعرية التي تعزز من شرعيتها من خلال خلقها تراثاً سمعياً يحفظ تراثاً متناقلاً تتم أرشفته.

على سبيل المثال وليس الحصر، أغنية "الْبِل عَمَلنْ جوطة" التي أدتها الحكَّامة شادن قردود في العقد الأخير، لا تحتفي فقط بالإبل وقيمتها أو الراعي وحنكته في الرعي ودرايته بسعيته، بل تؤسس لشفرة ثقافية كاملة، فهي تحمل في نبرتها وإيقاعها ومفرداتها خلاصة بيئة بأكملها، حيث يصبح وصف حركة القطيع استعارة عن الانسجام الجماعي، ويغدو ذكر الفولة استدعاءً لنبض الحياة في البادية التي هي كل شيء بالنسبة لهؤلاء القوم؛ هي هويتهم وذاكرتهم وكل قيمهم موجودة فيها وبفضلها. يصبح صوت الحكّامة هنا وسيطاً ينقل كل هذا: تراثاً شفهياً جيلاً بعد جيل، حاملاً معه الذاكرة واللغة وصور المكان.

نرى في فيديو لطيف بإحدى بوادي كردفان على يوتيوب الحكامة شادِن أمام جمع من الناس، بصوت عذب، وهي تمشي متأنّية على السهل المنبسط، تغني: "ألْبِل أبّن طولا،كسّن جِيهة الفُولة"، ما يعني أن الإبل استجابوا لنداء الراعي وساروا جهة الفولة -مورد المياه- "تبريت شدّنْ حولا لحسن المي الفوقا": التبريت هن الإبل الموجودة في آخر القطيع، ومعنى الجملة هو أن حتى الإبل الموجودة في آخر القطيع أسرعت لتلحق بمورد المياه مع بقية الإبل، وليشربوا الماء الموجود بالفولة. هذه الأغنية -وفق سلوى المشلي وشرحها لمعانيها- أغنية من تراث قبيلة الحمر، وكانت أصلاً تتغنَّى بها البنات في أواخر سبعينيات القرن الماضي.

العلاقة بين اللغة والتراث:

انقراض لغة ما، أو لهجة، يؤدي إلى فقدان كمٍ هائل من التراث الثقافي المرتبط بها، والعكس صحيح؛ اندثار التراث يُفقِد اللغة محتواها الحيوي. إن كانت اللغة حافظة للذاكرة الجمعية، أي محفظة تُخزَّن فيها الحكايات، الأمثال، الأغاني، الأساطير، الطقوس، العادات والتقاليد الخاصة بأمة ما، فهذا يعني أن هذه اللغة كلما ضعفت تآكل تراثها، لأن التراث يُثري اللغة ويساهم في إنتاج أنماط لغوية غنية بالصور البلاغية، فمثلاً لو اختفت كلمة مثل "الفُولة"، التي تعني مورد المياه الموسمي الذي تشرب منه الإبل والماشية، بكل دلالاتها، وكونها جزء من أمرٍ مهمّ وجوهري بالنسبة لقوم الرعي، هو قوام الحياة عندهم. هذا يعني أن جيلاً كاملاً جديداً فقد رابطاً بأحاسيسٍ موغلة في القِدم. بالطبع ستكون هنالك مفردة مرادفة للكلمة، لكنها ستكون يتيمة وبلا قصة. وغيرها من كلمات ذات صلة بالرعي كالسعيِّة والمرواح التي تعني عودة الماشية من المرعى عند الغروب، أو الزهايم التي تعني أماكن تجمع المياه بعد المطر، وهذه ليست مجرد كلمات بل هي مفاتيح لفهم ثقافة بأكملها. ومع تتابع النزاعات المسلحة في أماكن مثل درافور وكردفان، ما يعني توقف دولاب الحياة فيها -الرعي تحديداً- والنزوح المتكرر، من الجلي أن التوقف عن استخدام هذه المفردات سيحتّم انقراضها بمرور الزمن، أو تناسيها في الأجيال اللاحقة.

مقاومة التهميش والاندثار:

كيف تحافظ اللغة على التراث في أغاني الحكّامات؟

في نكران كامل للثقافات، ثقافات الآخر، وبمسميات أخرى في سياقات التهجير، النزاعات، التهميش الممنهج أو الاستعمار الثقافي؛ تصبح أغاني الحكّامة أداة مقاومة فعَّالة تُعيد ربط الناس بهويتهم ولغتهم وثقافتهم المحلية، وأداة لمقاومة النسيان وإعادة ربط الجذور في سياق النزوح القسري المتكرر، لا سيما في غرب السودان، فالحكامة تغنّي في كل مكان وتحت أي ظرف، وتستخدم لغة محكية - لهجة محلية غالباً- لكنها شاملة، مليئة بالحياة اليومية، ومهمومة، في ذات الوقت، بالقضايا الكبرى لمجتمعها، ما يجعل أغانيها مرآةً للثقافة الشعبية، ثقافة تُشَكِّلها تفاصيل الحياة اليومية، أسماء الأماكن، الحيوانات، الطقوس، المناسبات عامة، الأفراح والأتراح..إلخ إلخ. وبذا، تُشَكِّل أغانيهنّ أرشيفاً تاريخيَّاً حيَّاً، صادقاً ونزيهاً، للأحداث، الحروب، العلاقات، والمواقف الاجتماعية.

في كلّ السياقات الآنف ذكرها، تصدح الحكامة بصوتها، في معسكرات النزوح حتى، حول نيالا أو الجنينة أو غيرها من مدن، كأنها تصرّ على أن المكان لا يزال يتكلم بلسانه الأصلي. هنا يظهر صوتها وفعلها الغنائي كمقاومة ضد أي كان ما يحدث، صمتاً قسريّاً أو نكراناً ثقافيَّاً تفرضه الحرب التي تشنها اللغة القومية للبلاد ضد اللهجات لمحلية.

هكذا، من الماضي إلى الحاضر، تظل الحكامات بأصواتهن ينسجن على النول الموسيقي خيوط اللغة، فتخرج الأهازيج بإيقاعات مختلفة كوشاح طويل يحوي ذاكرة التراث على مر الأزمان ويحميها من النسيان. ويتضح من دراسة الدور الذي تلعبه الحكّامة في حفظ التراث من خلال اللغة عبر الأغاني التي تؤديها أن الأغنية الشفاهية غير المدونة هذه ليست مجرد أداة فنية، بل آلية مُعقَّدة، تمثِّل جزءً أساسيَّاً من حماية الهوية اللغوية والثقافية للمجتمعات المهمشة.

صورة الغلاف: نساء يحتفلن بالطرق على الدلاء © ساري عمر