شَجَرةُ مِعمَارِنا

يدٌ واحدة، تضم الشمال والجنوب، الشرق والغرب، والوسط الذي يتكئ عليه الجميع. من ضفاف البحر، حيث تغني الأمواج وتحمل القطن والملح، إلى تخوم الغرب، حيث للتراب ذاكرة، وللماء مشقّة الوصول. إلى الشمال، الموشوم بالحضارات، والجنوب الغارق في نهرين، ثم الوسط... حيث تختلط اللهجات وتُروى القصص كأنها جداول.

اقرأ المزيد
معرض الصور
No items found.
Pointing at Speaker
نُشر بتاريخ
3/10/25
المؤلف:
دعاء الحسن عثمان
المحرر:
سارة النقر
المحرر:
سارة النقر
مأمون التلب
المترجم:
المترجم:
النتيجة

  /  

العب مرة أخرى

  /   الاجابات

"حين تتشابك فروع الطين والحجر والريح لتروي حكاية واحدة… حكايتنا”.

تمهيد

"نشتهي الموت المؤقّت

نشتهيه ويشتهينا

نلتفُّ بالمدن البعيدة والبحار

لنفسِّر الأمل المفاجئ

والرجوعَ إلى المرايا... "

تأمَّل يدك لا تكتفِ بالنظر، بل دقق في التفاصيل: خمسة أصابع لا تتشابه، ومع ذلك، تتجاور بلا صراع. قد تظنها واحدة، لكنها تختلف في الطول والانحناء، في الملمس والوظيفة، حتى في الخطوط التي تحفرها الحياة على سطحها. وكلّما ظننت أن أحدها أضعف، أدركت أن لا حركة تكتمل إلا بتضافرها جميعاً.

هكذا يبدو السودان... إن أردت رؤيته حقًا.

يدٌ واحدة، تضم الشمال والجنوب، الشرق والغرب، والوسط الذي يتكئ عليه الجميع. من ضفاف البحر، حيث تغني الأمواج وتحمل القطن والملح، إلى تخوم الغرب، حيث للتراب ذاكرة، وللماء مشقّة الوصول. إلى الشمال، الموشوم بالحضارات، والجنوب الغارق في نهرين، ثم الوسط... حيث تختلط اللهجات وتُروى القصص كأنها جداول.

لكن يد الوطن، مثل كل يدٍ تثقلها الجراح، قد تُصاب بالخَدَر. تفقد الأصابع وعيها ببعضها، يتراجع الخنصر بعيداً، يتعب الإبهام، وتنكمش الحياة داخل كفٍّ كانت يومًا تنبض. تنزف التفاصيل التي كان من المفترض أن تكون متناغمة رغم الاختلاف، وتتشظَّى الصورة. ورغم ذلك، يبقى الأمل في أن تُستعاد الحاسة.

أن يجد الإنسان في مدنه ما يشبه ملامحه، أن يلمس في الزخرفة قصص جداته، وفي هندسة الساحة دفء اللقاء.

أن يستدلّ بالطين إلى أولى خطواته، ويصغي لصدى الأذان حين كان الدعاء يُقال من القلب، لا من العادة.

وحدها المدن الصادقة، تلك التي تُبنى كما تُحاك الحكايات، قادرة على أن تُعيد للإنسان يده.

يده التي بها يُعَرِّف الوطن.

الأصل: شَجَرة العائلة المعمَاريَّة

إذا بدا لك اختلاف الأصابع لغزاً، فتذكر أن الاختلاف لا يُولد صدفة! وراء كل تمايز، هناك أصل... وهناك حكاية. ليست هذه اليد التي تُشبه السودان يداً عادية، بل هي سُلالة من زمن بعيد، تضرب جذورها في طمي التاريخ، وتتشعب فروعها في الجغرافيا كما تتشعب الحياة. في الجذع الأول، قامت حضاراتٌ لم تكن مجرد نُظم سياسية أو حدود، بل طُرق تفكير وأسلوب بناء وروح عيش.

الأم نوبية، ذات ملامح حادة كالنقوش، وسكون يشبه النيل حين ينام بين ضفتيه. كانت تُجيد الإنصات للحجارة وتُلبسها المعنى، بنت القباب كأنها تحمي الزمن، وركّزت بيوت القرى على التناغم بين الجبل والظل، بين ضوء الشمس ودفء الطين.

والأب عربي، جاء من سلالات الغيم، اعتاد الرحيل لكنه حين استقر، استقر في اللغة والمعمار معاً. تَفنن في الأقواس، ورفَع المآذن كالقصائد، وأدار الأزقة على نغمة المِحراب.

وفي الجذر الأعمق، تجلس الجدة الكوشية، عظيمة الصمت، حارسة البدايات. تُنسب لها الأساطير كما تُنسب لها الأبنية الصامدة. عرفت التنظيم وعبقرية الموقع، وعلّمت الزمان كيف يكون مستقيماً في معابدها، ومهيباً في ملوكها. وكانت معابد جبل البركل شاهدة على دقة التخطيط وعظمة البناء.

من هذا النسب الموشوم بالحضارات، خرج الأبناء الخمسة... أبناء السودان.

أبناء الشجرة

في الشرق، وُلد الطفل المائي، يحمل في عينيه انعكاس البحر، وفي صوته نبرة الريح التي تعبر اليابسة. هناك، تتشابك الحجارة البيضاء مع الزرقة، وتُبنى البيوت قريبة من الساحل، كأنها تتحسّس البحر كل صباح.

في بورتسودان مثلًا، تتأثر العمارة بتصاميم الموانئ، وتُستخدم الأحجار البحرية والجير، فيما تحتفظ كسلا بشرفاتها المنقوشة بالخشب وأبوابها ذات الأقواس الرشيقة، تحتمي بجبل التاكا وتتنفس من نسمات القاش.

وفي الغرب، خرج الابن الترابي، عنيدًا كصخرة، ناعمًا كالرماد. هناك، تُبنى "القطية" من القش كأنها امتداد طبيعي للأرض، مستديرة الشكل، تحتضن الداخل وتحميه من لهيب الشمس.

في نيالا والفاشر، تُصمَّم الساحات بين المنازل بطريقة تسمح بتهوية جيدة وتجمّع اجتماعيّ في آن واحد. العمارة تُراعي المناخ القاسي والناس، وتُبقي الأفنية واسعة، والمساحات مخصصة للتلاقي والخصوصية معاً. هناك، البيوت تنمو من الأرض، لا تُفرض عليها.

أما الشمال، ففيه الطفل الحكيم، الذي سمع القصص من جدته الكوشية أكثر مما تحدث. يستعمل الطين لا بوصفه مادةً فقيرة، بل كخزانةٍ للدفء واللون. ترتفع الأقواس النوبية بين الجدران، وتُزيَّن البيوت بألوان ناصعة، كأن كل جدار يُخبر عن مزاج ساكنيه.

في قرى المحس والدناقلة، تجد البيوت النوبية بواجهاتها المطلية بالرماد الأبيض، ونقوشها الرمزية التي تحكي عن معتقدات، عن نهرٍ، وعن زواجٍ قريب.

الجنوب؟ هناك وُلد الابن الحالم، الذي لا يعرف الفرق بين البيت والشجرة.

تصعد المباني على سيقان، وتتماهى مع المطر، وتضحك للنهر. المساحات مفتوحة، ومليئة بالضوء، وكأنها خُلقت لتُغني لا لتُغلق.

وفي الوسط، اجتمع الجميع. الابن الخامس، الذي تشرَّب من كلّ إخوتِه وتناقضاتهم، ثم حاول أن يصنع لنفسه نغمة خاصة. بنى عالياً أحياناً، وضيَّق الطرق أحياناً، مزج اللغة المعمارية كما تُمزج اللهجات في الأسواق. مدينةٌ تبحث عن ذاتها، وتعيد ترتيب ألبوم العائلة كل مرة.

ورغم كل هذا الاختلاف، لم يخرج أحدٌ من أبناء هذه الشجرة عن الأصل؛ كلّ مدينة وصمةٌ من سلالة معمارية واحدة، لكنها اتخذت شكلها كما تأخذ القصيدة صوت قائلها.

ثمار اليوم، وحروب الأمس

حين تُزهر الشجرة، لا تسأل عن شكل الثمرة، ولا عن طعمها، بل يكفي أنها نضجت تحت ذات الظل، وتشرَّبت من ذات الجذور.هكذا تبدو مدن السودان اليوم: ثمارٌ خرجت من شجرة واحدة، لكنها تختلف في مذاقها، في ملمسها، في لونها، كأنها تقول: أنا من هناك... ولكني شيء جديد.

قد تختلف البيوت في نوافذها، وتتباين في درجات ألوانها، وقد يُصمِّم أحدنا ساحة بيته للغناء، وآخر للصمت، وثالث للضيافة… ومع ذلك، يبقى الجميع تحت ظل تلك الشجرة الكبيرة، التي وسَّعت هذا التنوع، واحتضنته كأم لا تفضّل ابناً على آخر، بل تفرح بكل اختلاف كأنه بركة.

لكن... كيف تبدو هذه الشجرة بعد الحرب؟

العواصف لا تمرّ دون أن تُسقِط شيئاً.

العمارة التي كانت تحمل دفء العيش، تهدَّمت في الخرطوم، وود مدني، وزالنجي. أحياء بأكملها باتت أطلالًا، ومبانٍ تراثية أُفرِغت من معناها حين غادر أهلها. النزوح، وإن بدا حلاً مؤقتاً، حمل معه معماراً لا يشبه المكان الجديد. البيوت التي بُنيت يومًا لتحتضن الطقس والتقاليد، تُستبدل الآن بخيم أو مساكن أسمنتية لا تصغي للبيئة، ولا تروي الحكاية.

شجرة العائلة المعمارية لا تزال تنبض... لكن أغصانها تعبت.

هل من يُرمّمها؟ هل من يسمع نداء الحجارة؟ هل من يفتح للمعمار ذاكرته من جديد؟

الختام

جغرافيا السودان، الممتدة بين السهول والانحدارات، من الجبال الحمراء في الشرق، إلى الكثبان الذهبية في الغرب، ومن السافانا الخصبة في الجنوب، إلى الهضاب في الشمال، جعلت من كل منطقة قصة معمارية خاصة.

الطين في الشمال يختلف عن الطين في دارفور، والحجر في البحر الأحمر ليس كالحجر الرملي في الوسط، والرياح في كردفان ترسم خطوط البيوت كما ترسم الرمل.

الخرائط التي كانت يوماً تفصل بين البعيد والبعيد، صارت اليوم تحاول أن ترسم طرقاً للوصل، أن تمدّ جسوراً من جذرٍ إلى جذر، ومن فرعٍ إلى فرع، في مدنٍ تتعلم كيف تتكلم لغة بعضها البعض، وتتعرف على إخوتها بعد غياب.

ربما حان الوقت أن نتجول كأبناءٍ عائدين. لا لنبحث عن غرابة المدن، بل لنتعرّف على ما يربطنا بها؛ أن نسمع صوت الأب في زخرفة باب، أو همسة الأم في قبة طين، أو نداء الجدة في شارعٍ قديم. في كل مدينةٍ نطؤها، هناك مَن سبقنا، بنى قبلنا، وأحبّ قبلنا، وترك أثراً لنُكمل عليه.

شجرة العائلة المعمارية لا تزال تنبض. وثمارها؛ وإن اختلفت رائحتها أو طعمها، تظل حلوة. لأنها نبتت من حكاية واحدة... اسمها السودان.

هذا المقال جزء من سلسلة أفكار وبحوث ضمن مشروع "حوامة معمارية" الذي يهدف لمناقشة كل ما يخص العمارة والتنمية في السودان.

صورة الغلاف: حديقة السلام في كسلا، التقطها مايكل مالينسون

المراجع:

1. سعاد عبدالوهاب عبدربه – الخصائص المعمارية للسكن النوبي في شمال السودان: دراسة حالة منطقة السكوت.

2. الهيئة العامة للآثار والمتاحف – جبل البركل ومواقع الحضارة الكوشية

3. د. فاطمة بابكر محمود – قضايا الاسكان

4. تقارير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) حول النزوح وتأثيره على العمران

5. مقابلات وشهادات ميدانية ضمن أرشيف حوامة معمارية

No items found.
نُشر بتاريخ
3/10/25
المؤلف:
دعاء الحسن عثمان
Editor
سارة النقر
المحرر:
مأمون التلب
المترجم:
Translator

"حين تتشابك فروع الطين والحجر والريح لتروي حكاية واحدة… حكايتنا”.

تمهيد

"نشتهي الموت المؤقّت

نشتهيه ويشتهينا

نلتفُّ بالمدن البعيدة والبحار

لنفسِّر الأمل المفاجئ

والرجوعَ إلى المرايا... "

تأمَّل يدك لا تكتفِ بالنظر، بل دقق في التفاصيل: خمسة أصابع لا تتشابه، ومع ذلك، تتجاور بلا صراع. قد تظنها واحدة، لكنها تختلف في الطول والانحناء، في الملمس والوظيفة، حتى في الخطوط التي تحفرها الحياة على سطحها. وكلّما ظننت أن أحدها أضعف، أدركت أن لا حركة تكتمل إلا بتضافرها جميعاً.

هكذا يبدو السودان... إن أردت رؤيته حقًا.

يدٌ واحدة، تضم الشمال والجنوب، الشرق والغرب، والوسط الذي يتكئ عليه الجميع. من ضفاف البحر، حيث تغني الأمواج وتحمل القطن والملح، إلى تخوم الغرب، حيث للتراب ذاكرة، وللماء مشقّة الوصول. إلى الشمال، الموشوم بالحضارات، والجنوب الغارق في نهرين، ثم الوسط... حيث تختلط اللهجات وتُروى القصص كأنها جداول.

لكن يد الوطن، مثل كل يدٍ تثقلها الجراح، قد تُصاب بالخَدَر. تفقد الأصابع وعيها ببعضها، يتراجع الخنصر بعيداً، يتعب الإبهام، وتنكمش الحياة داخل كفٍّ كانت يومًا تنبض. تنزف التفاصيل التي كان من المفترض أن تكون متناغمة رغم الاختلاف، وتتشظَّى الصورة. ورغم ذلك، يبقى الأمل في أن تُستعاد الحاسة.

أن يجد الإنسان في مدنه ما يشبه ملامحه، أن يلمس في الزخرفة قصص جداته، وفي هندسة الساحة دفء اللقاء.

أن يستدلّ بالطين إلى أولى خطواته، ويصغي لصدى الأذان حين كان الدعاء يُقال من القلب، لا من العادة.

وحدها المدن الصادقة، تلك التي تُبنى كما تُحاك الحكايات، قادرة على أن تُعيد للإنسان يده.

يده التي بها يُعَرِّف الوطن.

الأصل: شَجَرة العائلة المعمَاريَّة

إذا بدا لك اختلاف الأصابع لغزاً، فتذكر أن الاختلاف لا يُولد صدفة! وراء كل تمايز، هناك أصل... وهناك حكاية. ليست هذه اليد التي تُشبه السودان يداً عادية، بل هي سُلالة من زمن بعيد، تضرب جذورها في طمي التاريخ، وتتشعب فروعها في الجغرافيا كما تتشعب الحياة. في الجذع الأول، قامت حضاراتٌ لم تكن مجرد نُظم سياسية أو حدود، بل طُرق تفكير وأسلوب بناء وروح عيش.

الأم نوبية، ذات ملامح حادة كالنقوش، وسكون يشبه النيل حين ينام بين ضفتيه. كانت تُجيد الإنصات للحجارة وتُلبسها المعنى، بنت القباب كأنها تحمي الزمن، وركّزت بيوت القرى على التناغم بين الجبل والظل، بين ضوء الشمس ودفء الطين.

والأب عربي، جاء من سلالات الغيم، اعتاد الرحيل لكنه حين استقر، استقر في اللغة والمعمار معاً. تَفنن في الأقواس، ورفَع المآذن كالقصائد، وأدار الأزقة على نغمة المِحراب.

وفي الجذر الأعمق، تجلس الجدة الكوشية، عظيمة الصمت، حارسة البدايات. تُنسب لها الأساطير كما تُنسب لها الأبنية الصامدة. عرفت التنظيم وعبقرية الموقع، وعلّمت الزمان كيف يكون مستقيماً في معابدها، ومهيباً في ملوكها. وكانت معابد جبل البركل شاهدة على دقة التخطيط وعظمة البناء.

من هذا النسب الموشوم بالحضارات، خرج الأبناء الخمسة... أبناء السودان.

أبناء الشجرة

في الشرق، وُلد الطفل المائي، يحمل في عينيه انعكاس البحر، وفي صوته نبرة الريح التي تعبر اليابسة. هناك، تتشابك الحجارة البيضاء مع الزرقة، وتُبنى البيوت قريبة من الساحل، كأنها تتحسّس البحر كل صباح.

في بورتسودان مثلًا، تتأثر العمارة بتصاميم الموانئ، وتُستخدم الأحجار البحرية والجير، فيما تحتفظ كسلا بشرفاتها المنقوشة بالخشب وأبوابها ذات الأقواس الرشيقة، تحتمي بجبل التاكا وتتنفس من نسمات القاش.

وفي الغرب، خرج الابن الترابي، عنيدًا كصخرة، ناعمًا كالرماد. هناك، تُبنى "القطية" من القش كأنها امتداد طبيعي للأرض، مستديرة الشكل، تحتضن الداخل وتحميه من لهيب الشمس.

في نيالا والفاشر، تُصمَّم الساحات بين المنازل بطريقة تسمح بتهوية جيدة وتجمّع اجتماعيّ في آن واحد. العمارة تُراعي المناخ القاسي والناس، وتُبقي الأفنية واسعة، والمساحات مخصصة للتلاقي والخصوصية معاً. هناك، البيوت تنمو من الأرض، لا تُفرض عليها.

أما الشمال، ففيه الطفل الحكيم، الذي سمع القصص من جدته الكوشية أكثر مما تحدث. يستعمل الطين لا بوصفه مادةً فقيرة، بل كخزانةٍ للدفء واللون. ترتفع الأقواس النوبية بين الجدران، وتُزيَّن البيوت بألوان ناصعة، كأن كل جدار يُخبر عن مزاج ساكنيه.

في قرى المحس والدناقلة، تجد البيوت النوبية بواجهاتها المطلية بالرماد الأبيض، ونقوشها الرمزية التي تحكي عن معتقدات، عن نهرٍ، وعن زواجٍ قريب.

الجنوب؟ هناك وُلد الابن الحالم، الذي لا يعرف الفرق بين البيت والشجرة.

تصعد المباني على سيقان، وتتماهى مع المطر، وتضحك للنهر. المساحات مفتوحة، ومليئة بالضوء، وكأنها خُلقت لتُغني لا لتُغلق.

وفي الوسط، اجتمع الجميع. الابن الخامس، الذي تشرَّب من كلّ إخوتِه وتناقضاتهم، ثم حاول أن يصنع لنفسه نغمة خاصة. بنى عالياً أحياناً، وضيَّق الطرق أحياناً، مزج اللغة المعمارية كما تُمزج اللهجات في الأسواق. مدينةٌ تبحث عن ذاتها، وتعيد ترتيب ألبوم العائلة كل مرة.

ورغم كل هذا الاختلاف، لم يخرج أحدٌ من أبناء هذه الشجرة عن الأصل؛ كلّ مدينة وصمةٌ من سلالة معمارية واحدة، لكنها اتخذت شكلها كما تأخذ القصيدة صوت قائلها.

ثمار اليوم، وحروب الأمس

حين تُزهر الشجرة، لا تسأل عن شكل الثمرة، ولا عن طعمها، بل يكفي أنها نضجت تحت ذات الظل، وتشرَّبت من ذات الجذور.هكذا تبدو مدن السودان اليوم: ثمارٌ خرجت من شجرة واحدة، لكنها تختلف في مذاقها، في ملمسها، في لونها، كأنها تقول: أنا من هناك... ولكني شيء جديد.

قد تختلف البيوت في نوافذها، وتتباين في درجات ألوانها، وقد يُصمِّم أحدنا ساحة بيته للغناء، وآخر للصمت، وثالث للضيافة… ومع ذلك، يبقى الجميع تحت ظل تلك الشجرة الكبيرة، التي وسَّعت هذا التنوع، واحتضنته كأم لا تفضّل ابناً على آخر، بل تفرح بكل اختلاف كأنه بركة.

لكن... كيف تبدو هذه الشجرة بعد الحرب؟

العواصف لا تمرّ دون أن تُسقِط شيئاً.

العمارة التي كانت تحمل دفء العيش، تهدَّمت في الخرطوم، وود مدني، وزالنجي. أحياء بأكملها باتت أطلالًا، ومبانٍ تراثية أُفرِغت من معناها حين غادر أهلها. النزوح، وإن بدا حلاً مؤقتاً، حمل معه معماراً لا يشبه المكان الجديد. البيوت التي بُنيت يومًا لتحتضن الطقس والتقاليد، تُستبدل الآن بخيم أو مساكن أسمنتية لا تصغي للبيئة، ولا تروي الحكاية.

شجرة العائلة المعمارية لا تزال تنبض... لكن أغصانها تعبت.

هل من يُرمّمها؟ هل من يسمع نداء الحجارة؟ هل من يفتح للمعمار ذاكرته من جديد؟

الختام

جغرافيا السودان، الممتدة بين السهول والانحدارات، من الجبال الحمراء في الشرق، إلى الكثبان الذهبية في الغرب، ومن السافانا الخصبة في الجنوب، إلى الهضاب في الشمال، جعلت من كل منطقة قصة معمارية خاصة.

الطين في الشمال يختلف عن الطين في دارفور، والحجر في البحر الأحمر ليس كالحجر الرملي في الوسط، والرياح في كردفان ترسم خطوط البيوت كما ترسم الرمل.

الخرائط التي كانت يوماً تفصل بين البعيد والبعيد، صارت اليوم تحاول أن ترسم طرقاً للوصل، أن تمدّ جسوراً من جذرٍ إلى جذر، ومن فرعٍ إلى فرع، في مدنٍ تتعلم كيف تتكلم لغة بعضها البعض، وتتعرف على إخوتها بعد غياب.

ربما حان الوقت أن نتجول كأبناءٍ عائدين. لا لنبحث عن غرابة المدن، بل لنتعرّف على ما يربطنا بها؛ أن نسمع صوت الأب في زخرفة باب، أو همسة الأم في قبة طين، أو نداء الجدة في شارعٍ قديم. في كل مدينةٍ نطؤها، هناك مَن سبقنا، بنى قبلنا، وأحبّ قبلنا، وترك أثراً لنُكمل عليه.

شجرة العائلة المعمارية لا تزال تنبض. وثمارها؛ وإن اختلفت رائحتها أو طعمها، تظل حلوة. لأنها نبتت من حكاية واحدة... اسمها السودان.

هذا المقال جزء من سلسلة أفكار وبحوث ضمن مشروع "حوامة معمارية" الذي يهدف لمناقشة كل ما يخص العمارة والتنمية في السودان.

صورة الغلاف: حديقة السلام في كسلا، التقطها مايكل مالينسون

المراجع:

1. سعاد عبدالوهاب عبدربه – الخصائص المعمارية للسكن النوبي في شمال السودان: دراسة حالة منطقة السكوت.

2. الهيئة العامة للآثار والمتاحف – جبل البركل ومواقع الحضارة الكوشية

3. د. فاطمة بابكر محمود – قضايا الاسكان

4. تقارير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) حول النزوح وتأثيره على العمران

5. مقابلات وشهادات ميدانية ضمن أرشيف حوامة معمارية